1- عاجل الخير
القاعة مكتظة بالحضور.. بدأت المحاضرة محاضرتها بأسلوب جميل مؤثر، كان تأثيرها في الحاضرات واضحاً فعيونهن تطارد كل كلمة تخرج من فمها... أنهت محاضرتها.. تقدمت إليها جملة كبيرة من الحاضرات يعبرن عن عميق شكرهن ويسألن لها الثبات ويطالبنها بالاستمرار.. شقت المحاضرة صفوف النساء متجهة نحو امرأتين تتحدثان.. كان حديثهما كغيرهما في التعبير عن مدى التوفيق الذي قدمت به المحاضرة محاضرتها.. قطعت المرأتان حبل الحديث وهما مندهشتان حين تأكد لهما أن المحاضرة تقصدهما دون غيرهما.. قامتا لمصافحتها.. صافحت المحاضرة أولاهما في حرارة بالغة وطبعت على جبينها قبلة وسط اندهاشها.. قالت لها المحاضرة:
- لعلك عرفتيني؟
- بالخير إن شاء الله
- ألست تدرسين في المدرسة (.........)
- بلى وقد تركت التدريس من سنوات
- ألم تدرسي الصف الخامس ؟
- بلى .... بلى
- أتذكرين طالبة أعجبك صوتها فاعتدت إن تجعليها تقرأ بعد قراءتك مباشرة..
- آه تعنين فاطمة الــ............
- هي بالضبط.. إنها أنا...
نظرت إليها المرأة باندهاش وطفرت من عينها دمعتان وهي تقبل من جديد على معانقتها...
قالت المحاضرة لمدرستها السابقة: إن تأثرّك بالآيات التي كنت تتلينها علينا والذي كان يتضح في وجهك ونبرة صوتك كان يعمل عمله في نفوسنا حين ذاك.... وإن تعليقك على الآيات الذي يبدو أنك كنت تتعبين في إعداده لا يزال يمثل أمامي كلما مررت بتلك السور التي درّستينا إياها.
وإن التوجيهات التي كنت تنفحيننا بها بأسلوبك الهادي الجميل ساهمت إلى حد كبير في تقويم سلوك كثير من الطالبات... وأشهد ما رأيت زميلة لي واستعرضنا شيئاً من مسيرتنا الدراسية إلا كنت من أبرز المحطات فيها، وأسال الله أن لا يحرمك دعواتي ودعوات الزميلات.
حاولت المرأة المندهشة التي تركت التدريس منذ زمن أن تداري دموعها وهي تقول: لم أجد طعم الراحة في التدريس سوى هذه اللحظة.... وسأظل أحمد الله بأن منَّ عليَّ بأن أؤدى عملاً آخذ عليه راتباً ومن خلاله أستطيع غرس مثل هذا الثمر الطيب..!!
2- تذكــــّــــر
حين يقدر لجملة من الأصدقاء أو الصديقات أو الزملاء الالتقاء في جلسة مفتوحة يصبح الحديث متشعباً فينتقل دون استئذان من موضوع إلى آخر.. وحين يقدر أن يعرّج (تيار) الحديث في المجلس على التعليم - وكثيراً ما يستأثر موضوع التعليم بالحديث - فسيجد كل واحد من الجالسين أن أمامه فرصة جميلة لاستعادة ذكريات الصبا وحمل الحقيبة وقفز الخطوات إلى المدرسة والحركات العابثة داخل الفصل، وحين يسرع به قطار الذكريات متخطياً المرحلة الابتدائية إلى المتوسطة فالثانوية سيجد أنه في غمرة نسيانه لكثير من مدرسيه أسماءً وملامح لم ينس جملة منهم حتى لكأنهم أمامه.. فالأستاذ ( فلان ) الذي درّسه في الصف الثاني الابتدائي كان دائم التجهّم، مكفهر الوجه، منقبض العضلات.. وهو وإن كان يرغب في الزعيق لكن لم يكن صوته يسعفه! كان الأطفال كلهم يمقتونه وإن كانوا هادئين عنده... أما الأستاذ (فلان) والذي درّسه التاريخ في الصف الرابع.. فإن صورة الابتسامة تجعله يبادله إياها الآن رغم مرور خمسة عشر عاماً عليها.. وهو لم ينس كيف كان الأطفال يأخذون طريقهم إلى المقاعد بأقصى سرعة دون أن يأمرهم بذلك بل بمجرد رؤيته مقبلاً إلى الصف.. كان حين يدخل ترتسم الابتسامة المعهودة على شفتيه.. ثم يلقي التحية.. كان كل طالب يجهد في المشاركة في نشيد رد التحية: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
ومدرس الرياضيات في أولى متوسط.. يا لقسوته بل يا لوحشيته.. من يصدّق أن مدرساً يكسر يد طالب بدعوى التأديب؟! أما مدرس النصوص في العام نفسه فالكل يشهد له بالسماحة والمسامحة؛ لقد كان كل من يحدث إزعاجا في الصف ولو غير حادٍ يأتي إليه معتذراً لأنه كان يعاتب بعينيه!!
أعتقد جازماً أن مدرس اليوم أو مدرس الغد هو طالب الأمس، وهو يملك شريط ذكريات طويل تتخلله محطات يستوقفه ويستعذبها وأخرى يشمئز منها.. يا ترى ألا يشكل هذا المخزون الواقعي مادة جميلة ودروساً ثرة للمدرسين والمدرسات في رسم أسلوب التعامل مع الطلبة أو الطالبات.. أظن أن الإجابة ستكون عند الأذكياء بالإيجاب.. وأقول "الأذكياء"؛ لأن الأغبياء ربما كانوا يعيشون بلا ذاكرة.. وبذا يحرمون وجود تاريخ يقبسون منه حياة جميلة لواقعهم..!!
3- أنت تملين هم يملون منك!!
- أفّ.. ما أتعبها من حياة.. وما أزعجه من عمل!!
هكذا تردد بعض من المدرسات وهي تنهض للدرس الخامس أو السادس.
إن دفتر التحضير يشكل إزعاجا حاداً وهو يلحّ على المدرسة أن تملأ صفحة أو أكثر كأنه أحد أفراد العائلة.... ودفاتر الواجب.. آه.. ما أقبحها.. يا ترى هل وراءها فائدة.. أم إنها وضعت لمضاعفة العبء على المدرسين؟! ولو تجاوزت هذه الأعباء وغيرها لرأيت أنها واحة ظليلة بالنسبة لشغب الطالبات ومشاكلهن التي لا تنتهي.. إنها حين تدخل الفصل بتثاقل يظل سيل الطالبات هو الآخر بطيئاً رغم التهديدات المستمرة بالمنع من الدخول... ويظل صوت الطالبات يرتفع كلما دخلت طالبة.. وتظل المدرسة تكتب كلمة من الدرس على السبورة لتلتفت إلي الطالبات طالبة منهن الصمت.. ومع أن صوتها يضيع في وسط أصواتهن إلا أنها لا تلبث أن تنفعل وبقدر انفعالها يرتفع صوتها حتى تصبح كأنها قائد جيش يؤنب جنوده على التقاعس.. وقد تفلح سياط حديثها بإيقاف موج الكلام الهادر ولكنها ما إن تعود إلى الكتابة حتى تظل نار الحديث ترتفع وترتفع إلى أكثر (ربما) من مستواها الأول.. وهذه الأصوات المزعجة جداً ما إن تبدأ المدرسة بشرح الدرس حتى يبدأ النعاس يداعب أجفان الطالبات اللاتي كن قبل لحظات في أوج نشاطهن وهن يتبادلن الأحاديث فيما بينهن... وربما تراءى للمدرسة أنها بالغت في إيضاح الدرس.. تقيم طالبة من وسط الفصل فتسألها عن نقطة في الدرس فإذا هي كأنها لم تسمع الدرس من قبل.. وتقيم ثانية وثالثة ورابعة... وتكاد تصعق!! فهل تلام على الشعور بالملل؟... هناك من يقول: نعم هي مسؤولة.....!
فالطالبات ـ أولا ـ يشعرن بالملل أكثر منها.. فهي تستلم راتبا يدفعها للمواصلة والتحمل وبعضهن ربما لا يملك ريالاً يشتري به (سندوتشاً).
ثم هي ـ ثانياً ـ لها السيطرة عليهن؛ ولذا فهي تحب من تشاء وتبغض من تشاء وتثني على من تشاء وتسخر ممن تشاء..!! وهن لا يملكن إزاء ذلك إلا الصمت وإن كانت مراجل صدورهن تغلي!.. وثالثاً.. أن درسها في غاية البرود الذي تبدو معه أيام الشتاء مقبولة! فهي تدرس هذا العام بالأسلوب نفسه التي كانت تدرس به قبل عشر سنوات، وأغلب المواد التي تدرسها حينذاك هي المواد التي مازالت تدرّسها الآن، وبالتالي بدأت تشعر بأنها تجتر اجتراراً.. وتسرب إلى نفسها الملل الذي دفعها لاستخدام السلوكيات البغيضة من السخرية والاحتقار والسب واللوم.. فهل على الطالبات من لوم إن شعرن نحو درسها بالملل، وعبرّن عن ذلك بالنوم حيناً وعدم الفهم حيناً آخر؟!
4- أحبّ ما تعمل.. تعمل ما تحب!!
كم تشعر المدرسة بالفرح، كم يهون عندها التعب - مهما بلغ - حين تحسّ بالتجاوب من الطالبات.. إن حضور الطالبات المبكر إلى الفصل وإحضارهن دفاتر الواجب بانتظام وإصغاءهن إلى المعلمة حين شرح الدرس واستفسارهن عن بعض الفقرات وتأدبهن معها في التعامل... ذلك كله تعبير واضح يجسد الرضا الذي تشعر به الطالبات تجاه مدرستهن... وهو ينبىء عن ارتياح نفسي عميق لها... لم...؟!
- لأنهن يدركن في كل حركة من حركات مدرستهن إخلاصا عميقا للمادة، إن كلمات العتاب التي قلّ أن تنفح بها هذه المدرسة طالباتها تشهد في كلماتها وطريقتها بذلك الإخلاص.. عندما تقف كالنخلة بجدٍّ محبوب والكلمات تتقافز من فمها بحرارة: أنا أشعر نحوكن بحب عميق... وأنا أشعر معكن براحة... ولذا لا أرضى لكن إلا التفوق.... تبدو وهي تشرح كمن يجمع الفواكه الجميلة في ألوانها، الرائعة في مذاقها، ثم تقوم بعصرها وتقدمها بكأس بديع الصنع!!.. فما لشرحها لا يبلغ الأعماق بعد ذلك...
بقدر ما تحس الطالبات بشحوب وجوه بعض المدرسات يوماً بعد آخر تحس بإشراق وجه هذه المدرسة.. وبقدر ما يعمل مرور الزمن من الفتور في حياة بعض المدرسات كان مرور الزمن يحقنها بالحيوية والنشاط يوماً بعد آخر...
لا تذكر الطالبات أن مدرستهن رفعت صوتها ونالت من طالبة أو عرّضت بزميلة أو شكت من عمل أو تململت من مهنتها.
حين شرحت درساً يبدو أنه صعب.. ورد إليها في نهايته أكثر من طلب بإعادة شرح فقرة منه.. قالت طالبة: أزعجناك يا أبلا..!! ابتسمت قائلة: تعبكن راحة..
إنه الحب المتبادل الذي يفجر الحيوية فإذا التعب راحة في وقت تشعر أخريات بالتعب وسط الراحة.
5- مدرسة بوجهين
يشرق وجهها بابتسامة عريضة وتبدو سماء وجهها في غاية الصفاء وهي ترسل نظراتها نحو الطالبة (نون) تمازحها بكلمات تقطر رقة... تلتفت إلى اليمين ترى الطالبة (واو) تبتسم من أثر سماعها لتلك الممازحة.. فجأة تتراكم على سماء الوجه الصافي سحب قاتمة وتبتلع الشفتان تلك الابتسامة الحلوة وتبرق العينان بالشر ولا يمضي غير قليل من الوقت حتى يبدأ الرعد يصمّ الأذان وزخات المطر تكاد تغرق الفصل..!!!
إن هذه المدرسة بسذاجة بالغة تعجبها فلانة لخفتها، ولا تعجبها فلانة لثقل دمها! وترتاح لفلانة لجمالها ولا ترتاح لفلانة لدمامتها! وترتفع عندها قيمة فلانة لتفوقها وترخص عندها فلانة لضعفها! وقد يبدو الأمر عادياً لو بقي داخل سوار النفس، وقد يكون الأمر غير خطير لو اكتفت المعلمة بكلمة ثناء للمجتهدة.. وبابتسامة للنظيفة.. وبنظرة ذات معنى للخفيفة....
لكن الأمر يصبح غير مطاق عندما يصل إلى الدرجة التي تبدو فيه المدرسة الواحدة في الفصل الواحدة بوجهين وبلسانين، تبتسم يميناً وتزعق شمالاً وتمزح يميناً وتسب شمالاً.. تقول لبنت تنسى حل واجبها كل مرة: إنك تدفعينني لأن أغضب عليك! بينما تقول لأخرى لم تحفظ جيداً لأول مرة: يبدو أنك واثقة من رسوبك!
إن هذه المدرسة الساذجة تجهل بشكل قاطع أن الطالبة المحظية تشعر بوحشة وفزع وازدراء بالغ عندما ترى هذه المدرسة التي تعبرّ لها عن مشاعر حبها لها تنقلب إلى وحش كاسر يزأر بعنف في الجهة الأخرى من الفصل وبين يديه فتاة صغيرة تكاد تذوب من الخوف....!!
إن هذه المدرسة الساذجة التي تنتقي من الفصل جملة من الطالبات تمنحهن الحب والتقدير كما لو كانت تقلب بعض الفاكهة (لتنتقي) منه ما يكمل له وزن الكيلو غرام.. إنها تنزع بقوة يوماً بعد آخر احترامها وتقديرها وحبها من نفس طالباتها أجمع.
6- ملق!
تقدمت طالبة الصف الثالث إلى معلمتها بالكتابة التي طلبتها.. الطالبة جيدة نسبياً ولكن خطّها كان ضعيفاً... كتابتها تغطي نصف الصفحة.. نظرت المعلمة في الدفتر نظرة عجلى ثم راحت ترقم (تكتب) في النصف الثاني من الصفحة كلمات الإطراء (ممتازة جداً.... أتمنى لك التوفيق والنجاح....) ابتسمت الطفلة وهي تتناول كراستها وتنصرف إلى مقعدها... لكنها في منتصف الطريق رجعت إلى المعلمة صائحة بها:
- أبلا... هذا خطأ.....
تناولت المدرسة الكراسة بفتور وقبل أن تستكمل نظراتها دفعتها إلى الطالبة قائلة:
- خلاص.. صلحيه.
ومضت الطفلة ولكنها لم تلبث أن رجعت. وقبل أن تصل إلى المعلمة رمقتها بعينيها:
- هاه ياشاطرة!
- فيه خطأ ثاني.
زمّت المعلمة شفتيها قائلة :
- خلاص صلحي كل الخطأ الموجود..!!
في المنزل كانت الطفلة تسخر من المعلمة وهي تتحدث مع أمها عن قصتها معها..
إن الطفل بفطرته يدرك إن المدح ( السائب ) المبالغ فيه ملق.. وهو يرتاح إلى المدح الإيجابي الحقيقي.. كان يمكن للمعلمة - بدلاً من هذا الثناء المفتوح الذي اكتشفت الملق وعدم الدقة فيه الطفلة نفسها ـ أن تكتب: الإجابة جيدة.. وأرى خطك يتحسن يوماً بعد آخر.. ثم تشير إلى الكلمات الخاطئة ملتمسة من الطالبة ـ بلطف ـ إعادة النظر فيها وتقويمها.
إن المدرّسة حين تعطي كل ما عندها من الثناء في أول أسبوع ثم تظل تكرره طيلة أيام العام.. وتكرره في كراسات معظم الطالبات يفقد قيمته ويصبح روتيناً لا نكهة له ولا طعم.. لكن الكلمات التي تثني على الجوانب الإيجابية في الطالبة أو الإجابة، وتدفع إلى تحقيق مزيد من التقدم هي التي يفترض أن نسعى إلى توظيفها ورقمها في كراسات الطالبات.. أو أن نقولها عقب تحقيقهن نتائج طيبة في امتحانات أعمال السنة، أو في تقدمهن في المشاركة من مثل:
- أنا أرى أنك تحرصين على الفهم وتحاولين أن لا يفوتك الإسهام في المشاركة.
- يعجبني حسن تنظيمك وأرتاح كثيراً لو أعطيت لنفسك فرصة أكثر من التفكير في الإجابة عن بعض الأسئلة، وأنا واثقة بأنك قادرة على ذلك.
7- الكل يشعر بالفقد
أشرق وجه الطفلة، واندلقت على شفتيها ابتسامة محببة وهي تسمع مدرستها تقول : أحسسنا بفقدك يا نور.. شعرنا أن أحد كواكب الفصل انطفأ!
كانت الطفلة نور قد تعرضت لوعكة اضطرتها للتخلف عن الدراسة أسبوعا.. ولم تكتف المدرسة بتلك الكلمات المؤثرة الجميلة، بل حاولت مساعدة نور على تدارك ما فاتها من الدروس بصورة غير متعبة.
بعد مضي شهر اعترى المدرسة ظرف جعلها تتخلّف عن الحضور إلى المدرسة يوماً واحداً.. كانت الطفلة نور في اليوم التالي تقف بباب الفصل وترسل عينيها في كل اتجاه من الفناء كأنما فقدت شيئاً فهي تبحث عنه.. فجأة شاهدت معلمتها.. لم تتردد نور في الانطلاق إليها واستقبالها في منتصف الطريق.. قالت نور ونَفَسُها يتردد في صدرها : لماذا تغيّبت أمس يا أبلا؟! نحن نحبك ولا نسمح لك بأن تتركينا!
- ابتسمت المعلمة بلطف وهي تربت على كتف الطفلة نور قائلة:
- تحبينني فعلاً يا نور؟ أجابت الطفلة بعفوية:
- لو كنت أعرف أنك لن تحضري أمس ما حضرت!
- لم تكن نور هي التي تحمل تلك المشاعر الفيّاضة نحو معلمتها.. بل كانت الطالبات يتسابقن في التعبير عن مدى حبهن لمعلمتهن.. ويجتهدن في عمل ما يرضيها، والعمل على الابتعاد عما يسيئها ويسخطها.. وذلك لأن المعلمة كانت تحب كل طالباتها، وتعبّر لهن عن ذلك في كل مناسبة بصدق ودون افتعال.. وذلك الحب ضروري فهو العنصر الأساسي للتواصل.. وهو لا يحول دون المحاسبة أو العتاب، وإن كان يفرض لغة عالية فيهما!
8ـ المدرسة تنفّس.. الطالبات ينفّسن!
تقف المعلمة أمام الطالبات.. يبدو عليها الضيق.. تلتفت جهة الطالبات رافعة صوتها:
- أنا قلت أكثر من مرة.. لابد أن تمسح السبورة قبل أن أدخل الفصل!
لم تكن السبورة بحاجة شديدة إلى المسح ففيها خطوط لا تحتاج إلى أكثر من إمرار اليد عليها مرة واحدة.. أخذت إحدى الطالبات طريقها إلى السبورة وأمرّت يدها عليها بعجل، ثم ارتدّت راجعة إلى مقعدها.
خطَت المدرسة نحو السبورة.. لم تكد تكتب عنوان الدرس حتى التفتت ونظرت إلى إحدى الطالبات قائلة بلهجة حادة:
- إذا لم تصمتي سوف أخرجك من الفصل!
أكملت كتابتها.. رفعت إحدى الطالبات يدها.. أذنت لها ببرود.. قالت الطالبة:
- التاريخ غلط.. اليوم خمسة لا ستة!!
نظرت إلها المعلمة بحنق قائلة: اجلسي.. ما سألتك!
الطالبات يعرفن أن المعلمة فيها لطف وسماحة.. لكنهن أدركن مع مرور الأيام أن المعلمة تأتي أحياناً بنفسية سيئة تنقلب معها إلى شخصية أخرى.. تحكم الفصل بعنف، وتصبح حساسة جداً.
سقط كتاب طالبة على الأرض.. التفتت إلها المعلمة صائحة بهياج: أنت لا تكفّين عن الإزعاج.. كأنك لا تزالين طفلة بحاجة إلى لهاية!
وحين فتحت طالبة النافذة رمقتها المعلمة بنظرات حادة قائلة: أنت لا تكتفين بالإهمال والشرود.. (والله من وسع الوجه!).. تريدين التفرج على الفناء!
أحسّت الطالبة بالهضم وردت على المعلمة: لا والله.. لكن الجوّ حار!
ردت المعلمة بصرامة : يكفي.. قلّة أدب.. أغلقي النافذة.
لم تكن الطالبة وحدها من يحسّ بالحر.. بل كانت الطالبات كلهن يشعرن بحرٍ شديد.. فعلاوة على أن الجوّ كان صيفاً إلا أن المكيّف يبدو عاجزاً عن إطفاء لهيب الحريق المنبعث من صدر المعلمة!!
مع مرور الأيام أدركت الطالبات أنهن الضحية المناسبة.. فهن بوضعهن كطالبات قد اتخذتهن المعلمة إسفنجة لامتصاص الانفعالات التي تحملها من بيتها وتبحث عن ضحية تفرغها فيه!
أن المعلمة التي تتعرض لمثل هذا النفسية أحياناً نتيجة لمشكلات بيتية أولى بها أن لا تحضر إلى المدرسة، فهو خير لها ألف مرة من أن يصك مسمعها ـ وهي في طريقها إلى أحد الفصول ـ قول طالبة لأخرى: عليّ حق إذا ما كان زوجها مزعّلها اليوم!! لترد عليها الطالبة الأخرى: المسكينات الطالبات (اللي) هي عندهن!!
كم يخيّم الحزن والكآبة على الفصول التي تطّلع الطالبات فيها أول العام على أن ضمن المعلمات لهن تلك المعلمة.. ويتراءين نهاية العام كمن لا يمكن أن يأتي!!
وحتى المعلمة نفسها في أيامها التي تنقشع فيها غمامة المشكلات فتبدو بنفسية أكثر انفتاحاً.. لِمَ تلوم الطالبات اللاتي قد يبدو منهن أحياناً بعض الشغب أو المشاكسة أو التصرفات غير اللائقة؟! لِمَ لا تستفيد من خبرتها فتدرك أن مردّ بعض ذلك على الأقل هو ربما بسبب ما يتعرضن له من شدة وضغط فينفّسن كما تنفّس هي؟!
9- كلهم ضيوف!
حين يقدر لإحدى ضيفات المعلمة أن تنسى حقيبة يدها في الصالة وتقوم للانصراف، وتدرك المعلمة المضيفة ذلك فماذا يمكن أن تقول؟ إنها حتماً ستبتسم ـ وإنْ مجاملةً ـ لتقول: كدت تنسين محفظتك.. لو فعلتها لاحتجتم مشواراً آخر..
وقد يكون مع الضيفة أطفال وتدفع أحدهم شقاوته إلى الصعود على المغسلة، وتمتد يده إلى المزهريات المصفوفة بعناية فوق رفّها.. وفجأة يسقط اللوح.. وتتحطم المزهريات عن آخرها.. ويتضح الفزع على وجه الضيفة الأم لا من أجل الزهور، بل من أجل الولد.. وحين تتأكد من سلامته تبدي أسفها.. لكن المعلمة المضيفة تبادر قائلة:
- لا داعي للاعتذار.. إنها لا تساوي من يعتذر عنها.
هذه المعلمة التي تحمل هذه النفسية الرحبة والتسامح الجميل هي نفسها تقف أمام طفلة صغيرة مطالبة إياها بدفتر الواجب.. وتظل الصغيرة تفتش محتويات حقيبتها دون فائدة.. ولعلها المرة الأولى التي تنسى فيها الكراسة.. ولكن المدرّسة لم تراع نفسيتها المضطربة، ولم تغفر لها الخطأ باعتباره الأول، وإنما أمطرتها بوابل من التقريع واللوم الذي سيبقى أثره في نفسيتها لا يمحوه مرور الزمن.
وتدخل طالبة الفصل ببراءة.. وحين تحاول الدخول بين الطاولات للوصول إلى مقعدها يلامس (مريولها) دفتر التحضير الذي كان متهيئاً للسقوط فيسقط.. تصاب الطالبة بفزع شديد.. ولكن المدرّسة بدلاً من أن تتجاوز هذا الأمر بظروفه تبادر قائلةً:
- عمى يعميك.... ما تشوفين...!!؟؟
ووقتها تصاب الطالبات كلهن بذهول إشفاقاً على تلك الطالبة.. وحتى ولو لم تتعرض لها المعلمة بعقاب فسيبقى ذلك الموقف ميسماً في قلبها.
إن المعلمة لو تأملت لوجدت أن تصرفها مع ضيوفها كان يفترض أن تطرده على طالباتها؛ فكلهم ضيوف.. إلا أن الطالبات يترددن كل يوم... ولو توقفن عن التردد لم تنتظر المدرّسة راتباً نهاية كل شهر، إضافة إلى أن هذا التصرف سيكون له أثره في سمعة المعلمة ومدى قابلية الطالبات لها.
كان بإمكان المعلمة أن تقول لمن تخلّفت عن كتابة الواجب أو لم تحضر دفتره:
- أعرف عنك الجد.. وأعتقد أن خطأ ما حدث... آمل منك العمل على تجاوزه.
وفي الحالة الثانية كان يفترض أن تهدئ المعلمة من روع الطالبة.. وتقول مثلاً:
- كان الدفتر يبحث عمن يسهل عليه السقوط.. فكنت أنت ضحيته.. أنا أعلم أنك فتاة مهذبة.
سيكون لهذا أثر إيجابي جميل على المعلمة، ونقش رائع في صدور الطالبات، وذكرى جميلة لمعلمة رائعة!!
10- حزم أخرق!!
حين تبدأ المعلمة بشرح الدرس يطرق باب الفصل.. تفتح وإذا الطارق إحدى الطالبات.. تتوقف المعلمة عن الشرح وتتجه بكليتها إلى الطالبة قائلة:
- خيراً إن شاء الله.. لم تأخرت؟ ترد الطالبة بعفوية:
- غلبني النوم وقمت متأخرة.
ولا تكاد تلفظ الكلمة الخيرة حتى تصفعها المعلمة بقولها:
- مثلك ليس غريباً عليها النوم.. كل الكسولات يعشقن النوم، لكنهن لن يتمتعن بطعم النجاح!
ماذا ترين يدور في ذهن الطالبة في تلك اللحظة.. ربما كانت تتحسب على أهلها الذين أقنعوها بالذهاب متأخرة زعماً بأن المعلمة لن تحاسبها.. وربما انقلبت عفويتها إلى تفكير ماكر برواية قصة مختلقة حين يتكرر الموقف!
لقد كان بإمكان المعلمة أن تعدّل في عبارتها بما يوصل رسالة جميلة إلى الطالبة دون أن يجرح مشاعرها أو يزرع بذور المكر في تربة عقليتها.. كأن تقول مثلاً: إن النوم مغرٍ.. ولكن الاستسلام له يخشى معه من التأخر.. وأحسبك طالبة مجدة!!
معلمة أخرى تكاد تكون صورة للمعلمة السابقة.. تقبل على غرفة الصف.. وقبل أن تلج باب الفصل تسمع صرخة عنيفة تتجاوز مساحة الفصل.. انعقد حاجباها.. سرت قشعريرة في جسدها.. زادت نبضات قلبها.. سارعت إلى مكانها أمام الطالبات.. وقبل أن تثبت رجلاها في ذلك المكان صاحت: من الذي صرخ وأنا مقبلة على الفصل؟! وبالطبع فالصمت غالباً ما يكون هو الجواب!.. شعرت بإهانة فرفعت صوتها أكثر قائلة: ينبغي أن تخبروني عن هذه البقرة التي تظن أن الفصل للخوار.. ولم يتبرع أحد لتعريف المعلمة على البقرة!!.. أحست المعلمة بإحباط وهي تحاول الخروج من المأزق الذي حبست نفسها فيه.. قالت: سوف أترك لكم فرصة إلى الدرس القادم لتكتبوا لي عن اسم هذه الخرقاء!!.. ويأتي الدرس القادم ولم يصل اسم الخرقاء!.. ولكن المعلمة لكي تنتصر لنفسها وتثبت ذاتها تقول لطالباتها: لقد تيقنت الآن أنكن مؤيدات لصاحبة الصوت.. وبالتالي فإنكن غير مؤدبات ولا كثيرات الرغبة في الدرس.. ولذا فسوف يطال العقاب الجميع.. لقد قررت خصم درجتين من أعمال السنة على كل طالبة.
إن المعلمة أساءت أكثر من الطالبة؛ فالطالبة التي أصدرت الصوت لم تكن تتقصد الإساءة أو الإزعاج.. بينما المعلمة ـ فوق كونها أضاعت جزءاً من الدرس ـ قد دفعت نفسها إلى الانفعال، وتلفظت خلاله بكلمات سوقية هي: البقرة.. الخرقاء.. ثم بتوجيه اللوم بحدة إلى الجميع.. ثم حاولت مداراة فشلها بتعميم العقاب.. إن هذا التصرف الذي حاولت به المعلمة ترميم شخصيتها التي أوشكت على السقوط قد وضع بذور الكراهية لها في نفوس الطالبات.. إن بعض الطالبات لا تدري حقيقة من هي صاحبة الصوت.. وبعضهن لا تملك الجرأة في تبليغ المعلمة.. وبعضهن يرين أن العملية تمّت خارج الدرس.. وقسم أخير رأين في سلوك المعلمة ما منعهن من التعاون معها. لقد كان بإمكان المعلمة أن تقول لطالباتها: لقد سمعت صوتاً قد ينم عن وجود موهبة صاحبته.. لكنه في الفصل مزعج جداً.. أتمنى أن تحرص كل واحدة منكن على إزالة أسباب الإزعاج.. ثم تأخذ في درسها.
وموقف آخر يتم أثناء دخول المعلمة أو انصرافها إلى تصحيح دفاتر الطالبات.. إذ تسمع المعلمة طالبة تطلق كلمة قذرة فتسألها المعلمة:
- ماذا قلت ؟
- قلت كذا (لكلمة أخرى غير ما سمعته المعلمة).
- ماذا قلت غير هذه الكلمة؟
- لم أقل شيئاً.
- بلى قلت.
- أبداً لم أقل إلا ما قلت لك.
- أنا سمعتك بأذني.
- ربما خانتك أذناك!
- خانتني أذناي.. بل خانك عقلك وسوء أدبك.. تفضلي خارج الفصل وسوف أتدبر أمرك بعد ذلك!
خرجت الطالبة مغلقة الباب وراءها بعنف تعبيراً عن غضبها.
كان يمكن أن يتطور الموقف بصورة أكثر خطورة لو رفضت الطالبة الخروج.. إن بإمكان المعلمة أن تنهي الموقف بصورة أقل من إجراء معركة يرتفع فيها الصوت.. إن نظرة عابسة ذات مغزى قد تكون أجدى بكثير من تصرف المعلمة هذا. وأمر أكثر جمالاً: لو أن المعلمة بعد هذه النظرة وأثناء حصة فراغ لديها استدعت الطالبة وأجلستها بجوارها في غرفة الاستراحة، وأشعرتها أنها تحبها، وأنها لم تتوقع إطلاقاً مثل تلك الكلمة منها.. وأن تلك الكلمة لا شك انزلقت على لسانها دون قصد.. وأن المعلمة لحبها لها واحترامها لم تشأ أن تعاتبها أو تحرجها بين زميلاتها.. وترجوها أن تستمر كما عهدتها.. أو ربما كما صورتها لنفسها!!
لكن تصرف المعلمة في الحالات الثلاث وإن حاولت المعلمة أن تنتصر له وتسميه حزماً يبقى في حالاته العامة: حزماً أخرق!!
11- أنت... أنا!
إن التوجيهات التي تحذر من الغضب وتدعو لمدافعته ومحاولة الخروج منه حين حدوثه توجيهات لها أهميتها وقيمتها.. لكن المعلمة مهما استوعبتها واقتنعت بها ستجد من عبث الطالبات ما يدفعها إلى الغضب.. هناك أطفال يتميزون بقدر غير قليل من المشاغبة.. وهناك تصرفات لا تستطيع المعلمة أن تتخلص معها من الانفعال.. إضافة إلى طبيعة التدريس، وكثرة الأعباء المصاحبة له، وتعدد الطالبات.. وحينئذ تجد المعلمة نفسها مضطرة للتعبير عن ذلك الانفعال، وإيقاف ذلك الشغب.. وقد لا تستطيع السيطرة على مظاهر الانفعال في وجهها.. ولكن الشيء المهم جداً حينئذٍ أن تعبر عن مشاعرها هي دون أن تمس سلوك الطالبات أو شخصيتهن.. (إن المعلمة المثقفة لا تخاف من غضبها؛ لأنها تعلمت التعبير عنه دون عمل أي ضرر.. إنها تدرك تمام الإدراك سرّ التعبير عن الغضب دون إهانة الغير.. وحتى عند استثارتها لا تطلق على الطالبات أسماء بذيئة.. إنها لا تهاجم سلوكهن أو تعتدي على شخصياتهن.. تقوم بوصف ما ترى وما تشعر وما تتوقع، وتشرع بمعالجة الحالة لا الفرد، إنها تدرك أنها عند حالة الغضب ينبغي أن تتعامل مع مجموعة عوامل تفوق قدرتها، وهي تحمي نفسها وتقي تلميذاتها باستخدام كلمة (أنا).. أنا منزعجة.. أنا غاضبة.. إن هذه العبارات أفضل من استخدام: أنت مزعجة أو مؤذية.. ماذا فعلت؟ إنك غبية.. إنك بلهاء.. ومن أنت حتى تفعلي هكذا ؟) * .
عندما تدخل المعلمة لتجد الفصل كأنه ساحة معركة.. الطاولات غير منتظمة.. المقاعد عاليها سافلها، أصوات الطالبات تكاد تقذف بسقف غرفة الصف.. لا شك أن عاصفة من الغضب ستنشأ داخلها، وسيرتفع بركان الغضب ليقذف بالحمم.. ووفقاً للقاعدة السابقة يفترض أن يأتي حديث المعلمة كالتالي:
- إن الوضع مزعج.. وإني غير راضية.. ليس جميلاً أن ننقل الفناء إلى داخل الفصل.. إن الفصل ليس مكاناً للصراخ.. وإن إعادة المقاعد والطاولات إلى وضعها الطبيعي فوق كونه مزعجاً سيضيع جزءاً من الدرس.
والمعلمة بهذا تستطيع بذكاء أن تتجنب بأسلوب عقلاني إهانة الطالبات مثل ما لو قالت:
- إنكن فوضويات.. أو: إنكن تعشقن الصراخ.. أو: إنكن لا تشعرن بالراحة حتى تتلفن المقاعد.. وأشد من ذلك أن تقول: قلن لي ما الفرق بين فصلكن الآن وبين حظيرة الغنم؟!
ومرة أخرى عندما كانت المعلمة منهمكة في الشرح رأت طالبتين تتحدثان وتبتسمان.. إن الوضع يدعو للانفعال.. قالت المعلمة: أنا منزعجة جداً.. وأعتقد أن الكلام أثناء الدرس ليس مزعجاً للمعلمة فقط، بل مزعج للجميع.. عند وجود ضرورة للكلام يمكن للطالبة أن تستأذن.. وبذا تستطيع المعلمة أن تنقل مشاعرها، وتعبر عن غضبها دون جرح لمشاعر الطالبتين.. لكن الأثر سيكون سلبياً لو أن المعلمة قالت: أشهد أنكما مزعجتان.. أو: أنتما على الدوام مصدر إزعاج.. أو: ألا تستطيعان غلق أفواهكما ولو عند شرح الدرس؟! وأشد من هذا لو قالت: إنني أشارككما الإزعاج لو لم أرغمكما على إخلاء الفصل لتستكملا كلامكما الفارغ!
القاعة مكتظة بالحضور.. بدأت المحاضرة محاضرتها بأسلوب جميل مؤثر، كان تأثيرها في الحاضرات واضحاً فعيونهن تطارد كل كلمة تخرج من فمها... أنهت محاضرتها.. تقدمت إليها جملة كبيرة من الحاضرات يعبرن عن عميق شكرهن ويسألن لها الثبات ويطالبنها بالاستمرار.. شقت المحاضرة صفوف النساء متجهة نحو امرأتين تتحدثان.. كان حديثهما كغيرهما في التعبير عن مدى التوفيق الذي قدمت به المحاضرة محاضرتها.. قطعت المرأتان حبل الحديث وهما مندهشتان حين تأكد لهما أن المحاضرة تقصدهما دون غيرهما.. قامتا لمصافحتها.. صافحت المحاضرة أولاهما في حرارة بالغة وطبعت على جبينها قبلة وسط اندهاشها.. قالت لها المحاضرة:
- لعلك عرفتيني؟
- بالخير إن شاء الله
- ألست تدرسين في المدرسة (.........)
- بلى وقد تركت التدريس من سنوات
- ألم تدرسي الصف الخامس ؟
- بلى .... بلى
- أتذكرين طالبة أعجبك صوتها فاعتدت إن تجعليها تقرأ بعد قراءتك مباشرة..
- آه تعنين فاطمة الــ............
- هي بالضبط.. إنها أنا...
نظرت إليها المرأة باندهاش وطفرت من عينها دمعتان وهي تقبل من جديد على معانقتها...
قالت المحاضرة لمدرستها السابقة: إن تأثرّك بالآيات التي كنت تتلينها علينا والذي كان يتضح في وجهك ونبرة صوتك كان يعمل عمله في نفوسنا حين ذاك.... وإن تعليقك على الآيات الذي يبدو أنك كنت تتعبين في إعداده لا يزال يمثل أمامي كلما مررت بتلك السور التي درّستينا إياها.
وإن التوجيهات التي كنت تنفحيننا بها بأسلوبك الهادي الجميل ساهمت إلى حد كبير في تقويم سلوك كثير من الطالبات... وأشهد ما رأيت زميلة لي واستعرضنا شيئاً من مسيرتنا الدراسية إلا كنت من أبرز المحطات فيها، وأسال الله أن لا يحرمك دعواتي ودعوات الزميلات.
حاولت المرأة المندهشة التي تركت التدريس منذ زمن أن تداري دموعها وهي تقول: لم أجد طعم الراحة في التدريس سوى هذه اللحظة.... وسأظل أحمد الله بأن منَّ عليَّ بأن أؤدى عملاً آخذ عليه راتباً ومن خلاله أستطيع غرس مثل هذا الثمر الطيب..!!
2- تذكــــّــــر
حين يقدر لجملة من الأصدقاء أو الصديقات أو الزملاء الالتقاء في جلسة مفتوحة يصبح الحديث متشعباً فينتقل دون استئذان من موضوع إلى آخر.. وحين يقدر أن يعرّج (تيار) الحديث في المجلس على التعليم - وكثيراً ما يستأثر موضوع التعليم بالحديث - فسيجد كل واحد من الجالسين أن أمامه فرصة جميلة لاستعادة ذكريات الصبا وحمل الحقيبة وقفز الخطوات إلى المدرسة والحركات العابثة داخل الفصل، وحين يسرع به قطار الذكريات متخطياً المرحلة الابتدائية إلى المتوسطة فالثانوية سيجد أنه في غمرة نسيانه لكثير من مدرسيه أسماءً وملامح لم ينس جملة منهم حتى لكأنهم أمامه.. فالأستاذ ( فلان ) الذي درّسه في الصف الثاني الابتدائي كان دائم التجهّم، مكفهر الوجه، منقبض العضلات.. وهو وإن كان يرغب في الزعيق لكن لم يكن صوته يسعفه! كان الأطفال كلهم يمقتونه وإن كانوا هادئين عنده... أما الأستاذ (فلان) والذي درّسه التاريخ في الصف الرابع.. فإن صورة الابتسامة تجعله يبادله إياها الآن رغم مرور خمسة عشر عاماً عليها.. وهو لم ينس كيف كان الأطفال يأخذون طريقهم إلى المقاعد بأقصى سرعة دون أن يأمرهم بذلك بل بمجرد رؤيته مقبلاً إلى الصف.. كان حين يدخل ترتسم الابتسامة المعهودة على شفتيه.. ثم يلقي التحية.. كان كل طالب يجهد في المشاركة في نشيد رد التحية: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
ومدرس الرياضيات في أولى متوسط.. يا لقسوته بل يا لوحشيته.. من يصدّق أن مدرساً يكسر يد طالب بدعوى التأديب؟! أما مدرس النصوص في العام نفسه فالكل يشهد له بالسماحة والمسامحة؛ لقد كان كل من يحدث إزعاجا في الصف ولو غير حادٍ يأتي إليه معتذراً لأنه كان يعاتب بعينيه!!
أعتقد جازماً أن مدرس اليوم أو مدرس الغد هو طالب الأمس، وهو يملك شريط ذكريات طويل تتخلله محطات يستوقفه ويستعذبها وأخرى يشمئز منها.. يا ترى ألا يشكل هذا المخزون الواقعي مادة جميلة ودروساً ثرة للمدرسين والمدرسات في رسم أسلوب التعامل مع الطلبة أو الطالبات.. أظن أن الإجابة ستكون عند الأذكياء بالإيجاب.. وأقول "الأذكياء"؛ لأن الأغبياء ربما كانوا يعيشون بلا ذاكرة.. وبذا يحرمون وجود تاريخ يقبسون منه حياة جميلة لواقعهم..!!
3- أنت تملين هم يملون منك!!
- أفّ.. ما أتعبها من حياة.. وما أزعجه من عمل!!
هكذا تردد بعض من المدرسات وهي تنهض للدرس الخامس أو السادس.
إن دفتر التحضير يشكل إزعاجا حاداً وهو يلحّ على المدرسة أن تملأ صفحة أو أكثر كأنه أحد أفراد العائلة.... ودفاتر الواجب.. آه.. ما أقبحها.. يا ترى هل وراءها فائدة.. أم إنها وضعت لمضاعفة العبء على المدرسين؟! ولو تجاوزت هذه الأعباء وغيرها لرأيت أنها واحة ظليلة بالنسبة لشغب الطالبات ومشاكلهن التي لا تنتهي.. إنها حين تدخل الفصل بتثاقل يظل سيل الطالبات هو الآخر بطيئاً رغم التهديدات المستمرة بالمنع من الدخول... ويظل صوت الطالبات يرتفع كلما دخلت طالبة.. وتظل المدرسة تكتب كلمة من الدرس على السبورة لتلتفت إلي الطالبات طالبة منهن الصمت.. ومع أن صوتها يضيع في وسط أصواتهن إلا أنها لا تلبث أن تنفعل وبقدر انفعالها يرتفع صوتها حتى تصبح كأنها قائد جيش يؤنب جنوده على التقاعس.. وقد تفلح سياط حديثها بإيقاف موج الكلام الهادر ولكنها ما إن تعود إلى الكتابة حتى تظل نار الحديث ترتفع وترتفع إلى أكثر (ربما) من مستواها الأول.. وهذه الأصوات المزعجة جداً ما إن تبدأ المدرسة بشرح الدرس حتى يبدأ النعاس يداعب أجفان الطالبات اللاتي كن قبل لحظات في أوج نشاطهن وهن يتبادلن الأحاديث فيما بينهن... وربما تراءى للمدرسة أنها بالغت في إيضاح الدرس.. تقيم طالبة من وسط الفصل فتسألها عن نقطة في الدرس فإذا هي كأنها لم تسمع الدرس من قبل.. وتقيم ثانية وثالثة ورابعة... وتكاد تصعق!! فهل تلام على الشعور بالملل؟... هناك من يقول: نعم هي مسؤولة.....!
فالطالبات ـ أولا ـ يشعرن بالملل أكثر منها.. فهي تستلم راتبا يدفعها للمواصلة والتحمل وبعضهن ربما لا يملك ريالاً يشتري به (سندوتشاً).
ثم هي ـ ثانياً ـ لها السيطرة عليهن؛ ولذا فهي تحب من تشاء وتبغض من تشاء وتثني على من تشاء وتسخر ممن تشاء..!! وهن لا يملكن إزاء ذلك إلا الصمت وإن كانت مراجل صدورهن تغلي!.. وثالثاً.. أن درسها في غاية البرود الذي تبدو معه أيام الشتاء مقبولة! فهي تدرس هذا العام بالأسلوب نفسه التي كانت تدرس به قبل عشر سنوات، وأغلب المواد التي تدرسها حينذاك هي المواد التي مازالت تدرّسها الآن، وبالتالي بدأت تشعر بأنها تجتر اجتراراً.. وتسرب إلى نفسها الملل الذي دفعها لاستخدام السلوكيات البغيضة من السخرية والاحتقار والسب واللوم.. فهل على الطالبات من لوم إن شعرن نحو درسها بالملل، وعبرّن عن ذلك بالنوم حيناً وعدم الفهم حيناً آخر؟!
4- أحبّ ما تعمل.. تعمل ما تحب!!
كم تشعر المدرسة بالفرح، كم يهون عندها التعب - مهما بلغ - حين تحسّ بالتجاوب من الطالبات.. إن حضور الطالبات المبكر إلى الفصل وإحضارهن دفاتر الواجب بانتظام وإصغاءهن إلى المعلمة حين شرح الدرس واستفسارهن عن بعض الفقرات وتأدبهن معها في التعامل... ذلك كله تعبير واضح يجسد الرضا الذي تشعر به الطالبات تجاه مدرستهن... وهو ينبىء عن ارتياح نفسي عميق لها... لم...؟!
- لأنهن يدركن في كل حركة من حركات مدرستهن إخلاصا عميقا للمادة، إن كلمات العتاب التي قلّ أن تنفح بها هذه المدرسة طالباتها تشهد في كلماتها وطريقتها بذلك الإخلاص.. عندما تقف كالنخلة بجدٍّ محبوب والكلمات تتقافز من فمها بحرارة: أنا أشعر نحوكن بحب عميق... وأنا أشعر معكن براحة... ولذا لا أرضى لكن إلا التفوق.... تبدو وهي تشرح كمن يجمع الفواكه الجميلة في ألوانها، الرائعة في مذاقها، ثم تقوم بعصرها وتقدمها بكأس بديع الصنع!!.. فما لشرحها لا يبلغ الأعماق بعد ذلك...
بقدر ما تحس الطالبات بشحوب وجوه بعض المدرسات يوماً بعد آخر تحس بإشراق وجه هذه المدرسة.. وبقدر ما يعمل مرور الزمن من الفتور في حياة بعض المدرسات كان مرور الزمن يحقنها بالحيوية والنشاط يوماً بعد آخر...
لا تذكر الطالبات أن مدرستهن رفعت صوتها ونالت من طالبة أو عرّضت بزميلة أو شكت من عمل أو تململت من مهنتها.
حين شرحت درساً يبدو أنه صعب.. ورد إليها في نهايته أكثر من طلب بإعادة شرح فقرة منه.. قالت طالبة: أزعجناك يا أبلا..!! ابتسمت قائلة: تعبكن راحة..
إنه الحب المتبادل الذي يفجر الحيوية فإذا التعب راحة في وقت تشعر أخريات بالتعب وسط الراحة.
5- مدرسة بوجهين
يشرق وجهها بابتسامة عريضة وتبدو سماء وجهها في غاية الصفاء وهي ترسل نظراتها نحو الطالبة (نون) تمازحها بكلمات تقطر رقة... تلتفت إلى اليمين ترى الطالبة (واو) تبتسم من أثر سماعها لتلك الممازحة.. فجأة تتراكم على سماء الوجه الصافي سحب قاتمة وتبتلع الشفتان تلك الابتسامة الحلوة وتبرق العينان بالشر ولا يمضي غير قليل من الوقت حتى يبدأ الرعد يصمّ الأذان وزخات المطر تكاد تغرق الفصل..!!!
إن هذه المدرسة بسذاجة بالغة تعجبها فلانة لخفتها، ولا تعجبها فلانة لثقل دمها! وترتاح لفلانة لجمالها ولا ترتاح لفلانة لدمامتها! وترتفع عندها قيمة فلانة لتفوقها وترخص عندها فلانة لضعفها! وقد يبدو الأمر عادياً لو بقي داخل سوار النفس، وقد يكون الأمر غير خطير لو اكتفت المعلمة بكلمة ثناء للمجتهدة.. وبابتسامة للنظيفة.. وبنظرة ذات معنى للخفيفة....
لكن الأمر يصبح غير مطاق عندما يصل إلى الدرجة التي تبدو فيه المدرسة الواحدة في الفصل الواحدة بوجهين وبلسانين، تبتسم يميناً وتزعق شمالاً وتمزح يميناً وتسب شمالاً.. تقول لبنت تنسى حل واجبها كل مرة: إنك تدفعينني لأن أغضب عليك! بينما تقول لأخرى لم تحفظ جيداً لأول مرة: يبدو أنك واثقة من رسوبك!
إن هذه المدرسة الساذجة تجهل بشكل قاطع أن الطالبة المحظية تشعر بوحشة وفزع وازدراء بالغ عندما ترى هذه المدرسة التي تعبرّ لها عن مشاعر حبها لها تنقلب إلى وحش كاسر يزأر بعنف في الجهة الأخرى من الفصل وبين يديه فتاة صغيرة تكاد تذوب من الخوف....!!
إن هذه المدرسة الساذجة التي تنتقي من الفصل جملة من الطالبات تمنحهن الحب والتقدير كما لو كانت تقلب بعض الفاكهة (لتنتقي) منه ما يكمل له وزن الكيلو غرام.. إنها تنزع بقوة يوماً بعد آخر احترامها وتقديرها وحبها من نفس طالباتها أجمع.
6- ملق!
تقدمت طالبة الصف الثالث إلى معلمتها بالكتابة التي طلبتها.. الطالبة جيدة نسبياً ولكن خطّها كان ضعيفاً... كتابتها تغطي نصف الصفحة.. نظرت المعلمة في الدفتر نظرة عجلى ثم راحت ترقم (تكتب) في النصف الثاني من الصفحة كلمات الإطراء (ممتازة جداً.... أتمنى لك التوفيق والنجاح....) ابتسمت الطفلة وهي تتناول كراستها وتنصرف إلى مقعدها... لكنها في منتصف الطريق رجعت إلى المعلمة صائحة بها:
- أبلا... هذا خطأ.....
تناولت المدرسة الكراسة بفتور وقبل أن تستكمل نظراتها دفعتها إلى الطالبة قائلة:
- خلاص.. صلحيه.
ومضت الطفلة ولكنها لم تلبث أن رجعت. وقبل أن تصل إلى المعلمة رمقتها بعينيها:
- هاه ياشاطرة!
- فيه خطأ ثاني.
زمّت المعلمة شفتيها قائلة :
- خلاص صلحي كل الخطأ الموجود..!!
في المنزل كانت الطفلة تسخر من المعلمة وهي تتحدث مع أمها عن قصتها معها..
إن الطفل بفطرته يدرك إن المدح ( السائب ) المبالغ فيه ملق.. وهو يرتاح إلى المدح الإيجابي الحقيقي.. كان يمكن للمعلمة - بدلاً من هذا الثناء المفتوح الذي اكتشفت الملق وعدم الدقة فيه الطفلة نفسها ـ أن تكتب: الإجابة جيدة.. وأرى خطك يتحسن يوماً بعد آخر.. ثم تشير إلى الكلمات الخاطئة ملتمسة من الطالبة ـ بلطف ـ إعادة النظر فيها وتقويمها.
إن المدرّسة حين تعطي كل ما عندها من الثناء في أول أسبوع ثم تظل تكرره طيلة أيام العام.. وتكرره في كراسات معظم الطالبات يفقد قيمته ويصبح روتيناً لا نكهة له ولا طعم.. لكن الكلمات التي تثني على الجوانب الإيجابية في الطالبة أو الإجابة، وتدفع إلى تحقيق مزيد من التقدم هي التي يفترض أن نسعى إلى توظيفها ورقمها في كراسات الطالبات.. أو أن نقولها عقب تحقيقهن نتائج طيبة في امتحانات أعمال السنة، أو في تقدمهن في المشاركة من مثل:
- أنا أرى أنك تحرصين على الفهم وتحاولين أن لا يفوتك الإسهام في المشاركة.
- يعجبني حسن تنظيمك وأرتاح كثيراً لو أعطيت لنفسك فرصة أكثر من التفكير في الإجابة عن بعض الأسئلة، وأنا واثقة بأنك قادرة على ذلك.
7- الكل يشعر بالفقد
أشرق وجه الطفلة، واندلقت على شفتيها ابتسامة محببة وهي تسمع مدرستها تقول : أحسسنا بفقدك يا نور.. شعرنا أن أحد كواكب الفصل انطفأ!
كانت الطفلة نور قد تعرضت لوعكة اضطرتها للتخلف عن الدراسة أسبوعا.. ولم تكتف المدرسة بتلك الكلمات المؤثرة الجميلة، بل حاولت مساعدة نور على تدارك ما فاتها من الدروس بصورة غير متعبة.
بعد مضي شهر اعترى المدرسة ظرف جعلها تتخلّف عن الحضور إلى المدرسة يوماً واحداً.. كانت الطفلة نور في اليوم التالي تقف بباب الفصل وترسل عينيها في كل اتجاه من الفناء كأنما فقدت شيئاً فهي تبحث عنه.. فجأة شاهدت معلمتها.. لم تتردد نور في الانطلاق إليها واستقبالها في منتصف الطريق.. قالت نور ونَفَسُها يتردد في صدرها : لماذا تغيّبت أمس يا أبلا؟! نحن نحبك ولا نسمح لك بأن تتركينا!
- ابتسمت المعلمة بلطف وهي تربت على كتف الطفلة نور قائلة:
- تحبينني فعلاً يا نور؟ أجابت الطفلة بعفوية:
- لو كنت أعرف أنك لن تحضري أمس ما حضرت!
- لم تكن نور هي التي تحمل تلك المشاعر الفيّاضة نحو معلمتها.. بل كانت الطالبات يتسابقن في التعبير عن مدى حبهن لمعلمتهن.. ويجتهدن في عمل ما يرضيها، والعمل على الابتعاد عما يسيئها ويسخطها.. وذلك لأن المعلمة كانت تحب كل طالباتها، وتعبّر لهن عن ذلك في كل مناسبة بصدق ودون افتعال.. وذلك الحب ضروري فهو العنصر الأساسي للتواصل.. وهو لا يحول دون المحاسبة أو العتاب، وإن كان يفرض لغة عالية فيهما!
8ـ المدرسة تنفّس.. الطالبات ينفّسن!
تقف المعلمة أمام الطالبات.. يبدو عليها الضيق.. تلتفت جهة الطالبات رافعة صوتها:
- أنا قلت أكثر من مرة.. لابد أن تمسح السبورة قبل أن أدخل الفصل!
لم تكن السبورة بحاجة شديدة إلى المسح ففيها خطوط لا تحتاج إلى أكثر من إمرار اليد عليها مرة واحدة.. أخذت إحدى الطالبات طريقها إلى السبورة وأمرّت يدها عليها بعجل، ثم ارتدّت راجعة إلى مقعدها.
خطَت المدرسة نحو السبورة.. لم تكد تكتب عنوان الدرس حتى التفتت ونظرت إلى إحدى الطالبات قائلة بلهجة حادة:
- إذا لم تصمتي سوف أخرجك من الفصل!
أكملت كتابتها.. رفعت إحدى الطالبات يدها.. أذنت لها ببرود.. قالت الطالبة:
- التاريخ غلط.. اليوم خمسة لا ستة!!
نظرت إلها المعلمة بحنق قائلة: اجلسي.. ما سألتك!
الطالبات يعرفن أن المعلمة فيها لطف وسماحة.. لكنهن أدركن مع مرور الأيام أن المعلمة تأتي أحياناً بنفسية سيئة تنقلب معها إلى شخصية أخرى.. تحكم الفصل بعنف، وتصبح حساسة جداً.
سقط كتاب طالبة على الأرض.. التفتت إلها المعلمة صائحة بهياج: أنت لا تكفّين عن الإزعاج.. كأنك لا تزالين طفلة بحاجة إلى لهاية!
وحين فتحت طالبة النافذة رمقتها المعلمة بنظرات حادة قائلة: أنت لا تكتفين بالإهمال والشرود.. (والله من وسع الوجه!).. تريدين التفرج على الفناء!
أحسّت الطالبة بالهضم وردت على المعلمة: لا والله.. لكن الجوّ حار!
ردت المعلمة بصرامة : يكفي.. قلّة أدب.. أغلقي النافذة.
لم تكن الطالبة وحدها من يحسّ بالحر.. بل كانت الطالبات كلهن يشعرن بحرٍ شديد.. فعلاوة على أن الجوّ كان صيفاً إلا أن المكيّف يبدو عاجزاً عن إطفاء لهيب الحريق المنبعث من صدر المعلمة!!
مع مرور الأيام أدركت الطالبات أنهن الضحية المناسبة.. فهن بوضعهن كطالبات قد اتخذتهن المعلمة إسفنجة لامتصاص الانفعالات التي تحملها من بيتها وتبحث عن ضحية تفرغها فيه!
أن المعلمة التي تتعرض لمثل هذا النفسية أحياناً نتيجة لمشكلات بيتية أولى بها أن لا تحضر إلى المدرسة، فهو خير لها ألف مرة من أن يصك مسمعها ـ وهي في طريقها إلى أحد الفصول ـ قول طالبة لأخرى: عليّ حق إذا ما كان زوجها مزعّلها اليوم!! لترد عليها الطالبة الأخرى: المسكينات الطالبات (اللي) هي عندهن!!
كم يخيّم الحزن والكآبة على الفصول التي تطّلع الطالبات فيها أول العام على أن ضمن المعلمات لهن تلك المعلمة.. ويتراءين نهاية العام كمن لا يمكن أن يأتي!!
وحتى المعلمة نفسها في أيامها التي تنقشع فيها غمامة المشكلات فتبدو بنفسية أكثر انفتاحاً.. لِمَ تلوم الطالبات اللاتي قد يبدو منهن أحياناً بعض الشغب أو المشاكسة أو التصرفات غير اللائقة؟! لِمَ لا تستفيد من خبرتها فتدرك أن مردّ بعض ذلك على الأقل هو ربما بسبب ما يتعرضن له من شدة وضغط فينفّسن كما تنفّس هي؟!
9- كلهم ضيوف!
حين يقدر لإحدى ضيفات المعلمة أن تنسى حقيبة يدها في الصالة وتقوم للانصراف، وتدرك المعلمة المضيفة ذلك فماذا يمكن أن تقول؟ إنها حتماً ستبتسم ـ وإنْ مجاملةً ـ لتقول: كدت تنسين محفظتك.. لو فعلتها لاحتجتم مشواراً آخر..
وقد يكون مع الضيفة أطفال وتدفع أحدهم شقاوته إلى الصعود على المغسلة، وتمتد يده إلى المزهريات المصفوفة بعناية فوق رفّها.. وفجأة يسقط اللوح.. وتتحطم المزهريات عن آخرها.. ويتضح الفزع على وجه الضيفة الأم لا من أجل الزهور، بل من أجل الولد.. وحين تتأكد من سلامته تبدي أسفها.. لكن المعلمة المضيفة تبادر قائلة:
- لا داعي للاعتذار.. إنها لا تساوي من يعتذر عنها.
هذه المعلمة التي تحمل هذه النفسية الرحبة والتسامح الجميل هي نفسها تقف أمام طفلة صغيرة مطالبة إياها بدفتر الواجب.. وتظل الصغيرة تفتش محتويات حقيبتها دون فائدة.. ولعلها المرة الأولى التي تنسى فيها الكراسة.. ولكن المدرّسة لم تراع نفسيتها المضطربة، ولم تغفر لها الخطأ باعتباره الأول، وإنما أمطرتها بوابل من التقريع واللوم الذي سيبقى أثره في نفسيتها لا يمحوه مرور الزمن.
وتدخل طالبة الفصل ببراءة.. وحين تحاول الدخول بين الطاولات للوصول إلى مقعدها يلامس (مريولها) دفتر التحضير الذي كان متهيئاً للسقوط فيسقط.. تصاب الطالبة بفزع شديد.. ولكن المدرّسة بدلاً من أن تتجاوز هذا الأمر بظروفه تبادر قائلةً:
- عمى يعميك.... ما تشوفين...!!؟؟
ووقتها تصاب الطالبات كلهن بذهول إشفاقاً على تلك الطالبة.. وحتى ولو لم تتعرض لها المعلمة بعقاب فسيبقى ذلك الموقف ميسماً في قلبها.
إن المعلمة لو تأملت لوجدت أن تصرفها مع ضيوفها كان يفترض أن تطرده على طالباتها؛ فكلهم ضيوف.. إلا أن الطالبات يترددن كل يوم... ولو توقفن عن التردد لم تنتظر المدرّسة راتباً نهاية كل شهر، إضافة إلى أن هذا التصرف سيكون له أثره في سمعة المعلمة ومدى قابلية الطالبات لها.
كان بإمكان المعلمة أن تقول لمن تخلّفت عن كتابة الواجب أو لم تحضر دفتره:
- أعرف عنك الجد.. وأعتقد أن خطأ ما حدث... آمل منك العمل على تجاوزه.
وفي الحالة الثانية كان يفترض أن تهدئ المعلمة من روع الطالبة.. وتقول مثلاً:
- كان الدفتر يبحث عمن يسهل عليه السقوط.. فكنت أنت ضحيته.. أنا أعلم أنك فتاة مهذبة.
سيكون لهذا أثر إيجابي جميل على المعلمة، ونقش رائع في صدور الطالبات، وذكرى جميلة لمعلمة رائعة!!
10- حزم أخرق!!
حين تبدأ المعلمة بشرح الدرس يطرق باب الفصل.. تفتح وإذا الطارق إحدى الطالبات.. تتوقف المعلمة عن الشرح وتتجه بكليتها إلى الطالبة قائلة:
- خيراً إن شاء الله.. لم تأخرت؟ ترد الطالبة بعفوية:
- غلبني النوم وقمت متأخرة.
ولا تكاد تلفظ الكلمة الخيرة حتى تصفعها المعلمة بقولها:
- مثلك ليس غريباً عليها النوم.. كل الكسولات يعشقن النوم، لكنهن لن يتمتعن بطعم النجاح!
ماذا ترين يدور في ذهن الطالبة في تلك اللحظة.. ربما كانت تتحسب على أهلها الذين أقنعوها بالذهاب متأخرة زعماً بأن المعلمة لن تحاسبها.. وربما انقلبت عفويتها إلى تفكير ماكر برواية قصة مختلقة حين يتكرر الموقف!
لقد كان بإمكان المعلمة أن تعدّل في عبارتها بما يوصل رسالة جميلة إلى الطالبة دون أن يجرح مشاعرها أو يزرع بذور المكر في تربة عقليتها.. كأن تقول مثلاً: إن النوم مغرٍ.. ولكن الاستسلام له يخشى معه من التأخر.. وأحسبك طالبة مجدة!!
معلمة أخرى تكاد تكون صورة للمعلمة السابقة.. تقبل على غرفة الصف.. وقبل أن تلج باب الفصل تسمع صرخة عنيفة تتجاوز مساحة الفصل.. انعقد حاجباها.. سرت قشعريرة في جسدها.. زادت نبضات قلبها.. سارعت إلى مكانها أمام الطالبات.. وقبل أن تثبت رجلاها في ذلك المكان صاحت: من الذي صرخ وأنا مقبلة على الفصل؟! وبالطبع فالصمت غالباً ما يكون هو الجواب!.. شعرت بإهانة فرفعت صوتها أكثر قائلة: ينبغي أن تخبروني عن هذه البقرة التي تظن أن الفصل للخوار.. ولم يتبرع أحد لتعريف المعلمة على البقرة!!.. أحست المعلمة بإحباط وهي تحاول الخروج من المأزق الذي حبست نفسها فيه.. قالت: سوف أترك لكم فرصة إلى الدرس القادم لتكتبوا لي عن اسم هذه الخرقاء!!.. ويأتي الدرس القادم ولم يصل اسم الخرقاء!.. ولكن المعلمة لكي تنتصر لنفسها وتثبت ذاتها تقول لطالباتها: لقد تيقنت الآن أنكن مؤيدات لصاحبة الصوت.. وبالتالي فإنكن غير مؤدبات ولا كثيرات الرغبة في الدرس.. ولذا فسوف يطال العقاب الجميع.. لقد قررت خصم درجتين من أعمال السنة على كل طالبة.
إن المعلمة أساءت أكثر من الطالبة؛ فالطالبة التي أصدرت الصوت لم تكن تتقصد الإساءة أو الإزعاج.. بينما المعلمة ـ فوق كونها أضاعت جزءاً من الدرس ـ قد دفعت نفسها إلى الانفعال، وتلفظت خلاله بكلمات سوقية هي: البقرة.. الخرقاء.. ثم بتوجيه اللوم بحدة إلى الجميع.. ثم حاولت مداراة فشلها بتعميم العقاب.. إن هذا التصرف الذي حاولت به المعلمة ترميم شخصيتها التي أوشكت على السقوط قد وضع بذور الكراهية لها في نفوس الطالبات.. إن بعض الطالبات لا تدري حقيقة من هي صاحبة الصوت.. وبعضهن لا تملك الجرأة في تبليغ المعلمة.. وبعضهن يرين أن العملية تمّت خارج الدرس.. وقسم أخير رأين في سلوك المعلمة ما منعهن من التعاون معها. لقد كان بإمكان المعلمة أن تقول لطالباتها: لقد سمعت صوتاً قد ينم عن وجود موهبة صاحبته.. لكنه في الفصل مزعج جداً.. أتمنى أن تحرص كل واحدة منكن على إزالة أسباب الإزعاج.. ثم تأخذ في درسها.
وموقف آخر يتم أثناء دخول المعلمة أو انصرافها إلى تصحيح دفاتر الطالبات.. إذ تسمع المعلمة طالبة تطلق كلمة قذرة فتسألها المعلمة:
- ماذا قلت ؟
- قلت كذا (لكلمة أخرى غير ما سمعته المعلمة).
- ماذا قلت غير هذه الكلمة؟
- لم أقل شيئاً.
- بلى قلت.
- أبداً لم أقل إلا ما قلت لك.
- أنا سمعتك بأذني.
- ربما خانتك أذناك!
- خانتني أذناي.. بل خانك عقلك وسوء أدبك.. تفضلي خارج الفصل وسوف أتدبر أمرك بعد ذلك!
خرجت الطالبة مغلقة الباب وراءها بعنف تعبيراً عن غضبها.
كان يمكن أن يتطور الموقف بصورة أكثر خطورة لو رفضت الطالبة الخروج.. إن بإمكان المعلمة أن تنهي الموقف بصورة أقل من إجراء معركة يرتفع فيها الصوت.. إن نظرة عابسة ذات مغزى قد تكون أجدى بكثير من تصرف المعلمة هذا. وأمر أكثر جمالاً: لو أن المعلمة بعد هذه النظرة وأثناء حصة فراغ لديها استدعت الطالبة وأجلستها بجوارها في غرفة الاستراحة، وأشعرتها أنها تحبها، وأنها لم تتوقع إطلاقاً مثل تلك الكلمة منها.. وأن تلك الكلمة لا شك انزلقت على لسانها دون قصد.. وأن المعلمة لحبها لها واحترامها لم تشأ أن تعاتبها أو تحرجها بين زميلاتها.. وترجوها أن تستمر كما عهدتها.. أو ربما كما صورتها لنفسها!!
لكن تصرف المعلمة في الحالات الثلاث وإن حاولت المعلمة أن تنتصر له وتسميه حزماً يبقى في حالاته العامة: حزماً أخرق!!
11- أنت... أنا!
إن التوجيهات التي تحذر من الغضب وتدعو لمدافعته ومحاولة الخروج منه حين حدوثه توجيهات لها أهميتها وقيمتها.. لكن المعلمة مهما استوعبتها واقتنعت بها ستجد من عبث الطالبات ما يدفعها إلى الغضب.. هناك أطفال يتميزون بقدر غير قليل من المشاغبة.. وهناك تصرفات لا تستطيع المعلمة أن تتخلص معها من الانفعال.. إضافة إلى طبيعة التدريس، وكثرة الأعباء المصاحبة له، وتعدد الطالبات.. وحينئذ تجد المعلمة نفسها مضطرة للتعبير عن ذلك الانفعال، وإيقاف ذلك الشغب.. وقد لا تستطيع السيطرة على مظاهر الانفعال في وجهها.. ولكن الشيء المهم جداً حينئذٍ أن تعبر عن مشاعرها هي دون أن تمس سلوك الطالبات أو شخصيتهن.. (إن المعلمة المثقفة لا تخاف من غضبها؛ لأنها تعلمت التعبير عنه دون عمل أي ضرر.. إنها تدرك تمام الإدراك سرّ التعبير عن الغضب دون إهانة الغير.. وحتى عند استثارتها لا تطلق على الطالبات أسماء بذيئة.. إنها لا تهاجم سلوكهن أو تعتدي على شخصياتهن.. تقوم بوصف ما ترى وما تشعر وما تتوقع، وتشرع بمعالجة الحالة لا الفرد، إنها تدرك أنها عند حالة الغضب ينبغي أن تتعامل مع مجموعة عوامل تفوق قدرتها، وهي تحمي نفسها وتقي تلميذاتها باستخدام كلمة (أنا).. أنا منزعجة.. أنا غاضبة.. إن هذه العبارات أفضل من استخدام: أنت مزعجة أو مؤذية.. ماذا فعلت؟ إنك غبية.. إنك بلهاء.. ومن أنت حتى تفعلي هكذا ؟) * .
عندما تدخل المعلمة لتجد الفصل كأنه ساحة معركة.. الطاولات غير منتظمة.. المقاعد عاليها سافلها، أصوات الطالبات تكاد تقذف بسقف غرفة الصف.. لا شك أن عاصفة من الغضب ستنشأ داخلها، وسيرتفع بركان الغضب ليقذف بالحمم.. ووفقاً للقاعدة السابقة يفترض أن يأتي حديث المعلمة كالتالي:
- إن الوضع مزعج.. وإني غير راضية.. ليس جميلاً أن ننقل الفناء إلى داخل الفصل.. إن الفصل ليس مكاناً للصراخ.. وإن إعادة المقاعد والطاولات إلى وضعها الطبيعي فوق كونه مزعجاً سيضيع جزءاً من الدرس.
والمعلمة بهذا تستطيع بذكاء أن تتجنب بأسلوب عقلاني إهانة الطالبات مثل ما لو قالت:
- إنكن فوضويات.. أو: إنكن تعشقن الصراخ.. أو: إنكن لا تشعرن بالراحة حتى تتلفن المقاعد.. وأشد من ذلك أن تقول: قلن لي ما الفرق بين فصلكن الآن وبين حظيرة الغنم؟!
ومرة أخرى عندما كانت المعلمة منهمكة في الشرح رأت طالبتين تتحدثان وتبتسمان.. إن الوضع يدعو للانفعال.. قالت المعلمة: أنا منزعجة جداً.. وأعتقد أن الكلام أثناء الدرس ليس مزعجاً للمعلمة فقط، بل مزعج للجميع.. عند وجود ضرورة للكلام يمكن للطالبة أن تستأذن.. وبذا تستطيع المعلمة أن تنقل مشاعرها، وتعبر عن غضبها دون جرح لمشاعر الطالبتين.. لكن الأثر سيكون سلبياً لو أن المعلمة قالت: أشهد أنكما مزعجتان.. أو: أنتما على الدوام مصدر إزعاج.. أو: ألا تستطيعان غلق أفواهكما ولو عند شرح الدرس؟! وأشد من هذا لو قالت: إنني أشارككما الإزعاج لو لم أرغمكما على إخلاء الفصل لتستكملا كلامكما الفارغ!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق