"باباي" بحار شجاع لا يستسلم أبدا للظروف الصعبة التي تواجهه، وبفضل تناوله للسبانخ المعلبة التي يحملها دائما في جيبه يستطيع التغلب على أي خطر يهدده! كانت هذه الرؤية الكرتونية المبكرة للترويج لفوائد نبات السبانخ بين الأطفال، لكن لم يدر أبدا بخلد مبتكر الشخصية الكرتونية الشهيرة التي ظهرت تحديدا عام 1929م أن استخدامات السبانخ قد تتخطى الأفكار التقليدية من فوائد صحية وتجميلية؛ لتصل إلى أهم الاستخدامات التقنية المعقدة في العصر الحديث، وتقود ثورات طبية وتكنولوجية معقدة سيكون لها دوي هائل في القريب العاجل.
فوزارة الطاقة الأمريكية تقوم حاليا بالتعاون مع جامعة جنوب كاليفورنيا بإجراء بحوث علمية لاستخدام بروتين موجود بالسبانخ لإعادة البصر إلى بعض المكفوفين عن طريق استبدال خلايا العين الميتة. كما تجرى عدة محاولات لإنتاج خلية شمسية من السبانخ على شكل رقاقة (شريحة) تستخدم لإمداد الأجهزة المحمولة كالهواتف والحواسب وغيرها بالطاقة الناتجة من كلوروفيل أو يخضور السبانخ، حيث يستفاد من قدرة النبات على استخدام أشعة الشمس لإنتاج الطاقة.
وفي إحدى هذه المحاولات نجح العلماء الأمريكيون في معهد "ماساشوستس" للتكنولوجيا "إم آي تي" وجامعة تينيسى ومختبرات البحرية الأمريكية في العاصمة واشنطن بالفعل في تصنيع أول جهاز في العالم يسمى "خلية البناء الضوئي في الحالة الصلبة"، وهو عبارة عن خلية كهربية أنتجت عن طريق محاكاة عملية التخليق الضوئي في أوراق نبات السبانخ، وتعمل هذه الخلية على تحويل ضوء الشمس إلى كهرباء.
وتأتي هذه الدراسات لتحقق رؤية صعبة المنال طالما راودت مخيلة العلماء، ويوضح "ماركو بالدو" من فريق معهد "إم آي تي" أن فريقه من العلماء "عبر أول عقبة في طريق التكامل بين البروتين الجزيئي المعقد وجهاز إلكتروني يعمل في الحالة الصلبة".
معجزة التخليق الضوئي
ينظر العلماء للأوراق النباتية الخضراء باعتبارها المصانع الكيميائية الأكثر إثارة للإعجاب والانبهار، ففيها تجري العملية الحيوية الأكثر تعقيدا وأهمية لاستمرار الحياة على الأرض والتي تُعرَف بالتخليق (التمثيل) الضوئي photosynthesis، ويمكن تلخيصها في أنها تؤدي إلى إنتاج سكر الجلوكوز من غاز ثاني أكسيد الكربون والماء في وجود مادة الكلوروفيل.
وتتميز النباتات الخضراء والطحالب وبعض أصناف الكائنات الدقيقة بقدرتها على تحويل طاقة الشمس إلى طاقة كيميائية بكفاءة عالية، وتمتلك النباتات آلية معقدة للتخليق الضوئي تهدف في النهاية إلى تخزين الطاقة الضوئية الشمسية ضمن الروابط الكيميائية التي تربط ذرات الكربون والأكسجين والهيدروجين، وتعتبر عملية التخليق الضوئي أنجح آلية في العالم لتحويل طاقة الشمس إلى جزيئات سكر.
ويمثل تفاعل انقسام جزيئات الماء في وجود الضوء إلى أيونات أكسجين وهيدروجين وإلكترونات نبض عملية التخليق الضوئي. ويشكل هذا التفاعل الحاسم لشطر جزيئات الماء لغزا محيرا؛ لأن الطاقة اللازمة لشطر جزيء الماء تفوق الحد الكافي لتدمير أي جزيء بيولوجي، ومع ذلك فإن النباتات تقوم بذلك طوال النهار يوميا دون أي تأثيرات جانبية. وبالمحصلة الإجمالية يحول الضوء كل جزيئين ماء إلى جزيء أكسجين وأربعة إلكترونات وأربع أيونات هيدروجين.
وقد توصل فريق من المجمع العلمي الملكي بلندن بقيادة "جيم باربر" و"سو إيواتا" في شهر يونيو 2004م إلى اكتشاف اعتبره البعض الإنجاز الحاسم الذي طال انتظاره؛ فلقد وضع العلماء أيديهم على
اكتشاف الآلية الكيميائية لانشطار الماءأثناء عملية التخليق الضوئي. واعتبر العلماء أن هذا الاكتشاف يمثل إنجازا مهما يفتح الباب على مصراعيه لمزيد من الاكتشافات التي من شأنها فك خيوط لغز التخليق الضوئي. وقال البروفيسور "ستنبيورن ستيرنغ" من جامعة لوند السويدية: "إذا كانت (الطبيعة) قد اخترعت مثل هذا النظام الناجح فمن الحماقة أن يتجاهل المرء إمكانية استخدامه كمصدر بديل للطاقة المتجددة".
ساندويتش البروتين.. حل المشكلة
ولقد حاول العلماء محاكاة التخليق الضوئي في النبات لابتكار جهاز إلكتروني لإنتاج الطاقة الكهربية، ولكن باءت تجاربهم السابقة بالفشل؛ لأن الخلايا الحية والمواد البيولوجية تحتاج إلى الماء والأملاح، في حين أن هذه المواد تدمر الأجهزة الإلكترونية الكهربية. وللتغلب على هذه المشكلة المعقدة قام "ماركو بالدو" وفريقه بتخليق ببتيد يقوم بتثبيت المركبات البروتينية على الأسطح الخشنة الباردة ويتماسك مع كميات قليلة من بعض جزيئات الماء.
ومن أجل الحصول على البلاستيدات الخضراء الموجودة في أوراق السبانخ والتي تقوم بعمليات التخليق الضوئي، قام العلماء بطحن أوراق السبانخ وفصل مكوناتها عن طريق استخدام جهاز الطرد المركزي، وتم تنقية البلاستيدات الخضراء وحفظها في حالة ذوبان في الماء. ثم قاموا بوضع البروتينات المعقدة على قطعة رقيقة من الزجاج مغلفة برقاقة من الذهب ومغطاة بمادة من أشباه الموصلات، ثم بطبقة أخرى من المعدن. وتم اختبار النموذج الأول للرقاقة عن طريق تعريضه لشعاع من الليزر لاختبار نظرية العمل.
ووجد العلماء أن الرقاقة تحول 12% من الضوء إلى شحنات كهربائية؛ لأن الشريحة مغطاة بطبقة رقيقة من المركبات الكيميائية. ويحاول العلماء تحقيق نسبة تحويل للطاقة تصل إلى 20% أو أكثر عن طريق وضع عدة طبقات من المركبات الكيميائية فوق بعضها في تراكب ثلاثي الأبعاد لزيادة مساحة السطح المعرض للضوء. كما يجرى العلماء حاليا عدة تجارب لإطالة عمر الرقاقة لاستخدامها في التطبيقات العملية؛ لأن البيبتيد المستخدم يحفظ البروتينات المركبة لمدة ثلاثة أسابيع فقط حتى الآن.
تم نشر هذه البحوث في دورية "نانوليترز"
NanoLettersالعالمية المختصة بتقنيات النانو الحديثة. وإذا نجح العلماء في إيجاد طريقة لإجراء تخليق ضوئي اصطناعي فإن ذلك سيجعل من الممكن تسخير ضوء الشمس لإنتاج كميات غير محدودة من الكهرباء أو الهيدروجين أو غيره من أصناف الوقود الغنية بالطاقة من الماء بصورة نظيفة وبتكلفة زهيدة.
وإذا كان البحار "باباي" يتغذى على وجبة واحدة من السبانخ المعلبة فتعطيه القوة لمجابهة الصعاب في أفلام الكرتون، فإنه في الواقع قدم خدمة كبيرة للإنسانية ساعدت على محاكاة معجزة التخليق الضوئي التي شكلت حدثا مهما في استمرار الحياة على الأرض. واليوم وبعد 5.2 مليارات سنة من نشأة الحياة ما زال العقل البشري يناضل بكل ما أوتي من قوة وتراكم معرفي لمحاكاة هذه المعجزة الإلهية في المختبر، محاولا إيجاد مصدر جديد للطاقة لا ينضب ليحل مشاكل العالم المزمنة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق