عالم المرأة
نسـاء ...هنّ المـثل الأعـلى
انحسرت في أوساط أبناء وبنات الأمّة الإسلامية حالات الاقتداء والتأسّي بالنماذج الراقية والأمثال العليا والقدوات الصالحة التي عرض القرآن الكريم الكثير منها ، وخلّد لنا التأريخ الإسلامي لمعان نجومها في مواقف لا تنسى بل تمتد بتأثيرها بامتداد الزمن ، لدرجة أن ترى فتاة مسلمة قدوتها في ممثِّلة أجنبيّة ولا ترى في فاطمة الزّهراء (عليها السلام)سيِّدة نساء العالمين ذلك. ولعلّنا نحن السبب في ذلك أو جزء منه ، لأ نّنا لم نحسن عرض شخصياتنا كما أحسن الآخرون في عرض شخصياتهم، فباتت شخصياتنا البارزة والمتأ لِّقة كأنّها جزء من التأريخ الذي انطوى، وهي ليست كذلك .
هل النِّساء المسلمات الصالحات ممّن ورد ذكرهنّ في القرآن أو في كتب السير هنّ نجوم مرحلة معيّنة مرّت وانتهت ولم يعد لهنّ الحضور الساطع ؟ هل تراهنّ أفلن ؟!
التجربة الميدانية والعملية تقول غير ذلك، فإنّ اختزانَ صور الإيمان والعفّة ورجاحة العقل والمقاومة والتضحية يعملُ على استيلاد صور مماثلة في شتّى العصور، ممّا يعني أنّ نجومنا الإسلامية الغابرة والمعاصرة قادرة على تحريك المَثَل في حياتنا بحيث نستحضره في المواقف الإيجابية أو الصعبة ليكون دافعاً إلى عمل الخير هناك وإلى مقاومة الاستبداد والشرّ هنا .
نجومنا إذاً صنعها المبدأ .
والكثير من نجوم الآخرين صنعتها الدعاية والأضواء .
نجومنا خالدة تصلح قدوة في كلّ وقت .
وتلك نجوم لا تصلح قدوة ، فالقدوة مسؤوليّة رسالية وأخلاقية .
نجومنا قدوات فكرية وعلمية وعملية وإيمانية وابداعية وسياسية وبطولية تغني الحياة في آفاقها كلّها .
وصادق من يقول: «من يكرِّس نفسه للحقّ لائق لأن يكون قدوة» .
في هذا الكُتيِّب ، آثرنا أن نقف عند ثلّة من نجوم نسوية تمثِّل القدوة الصالحة لكلّ فتاة شـابّة وامرأة ناضجـة ، لا لنسرد قصصـهنّ ـ وقد سمعناها وقرأناها مراراً ـ وإنّما لنستل ونستلهم منها الدروس والعبر ، ونعالج من خلالها بعض الظواهر السلبية المدانة ، مثلما نستهدي بعضاً من جوانبها الإيجابية المشرّفة .
( 2 )
إنّنا نريد أن نأخذ بأيديكنّ في هذه الجولة لنرد الينابيع الصافية ، ونريد النجوم العالية الساطعة ، ونميط غبار النسيان أو الاهمال عن كنوزنا الإيمانية النسوية الثمينة .
لا نتعجّل الحكم .. دعونا نكمل الرحلة، وليكن لكلّ شخص رأيه .
سؤال واحد نريد الإجابة عنه :
يقول تبارك وتعالى: (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ ا لْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ ا لَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ ا لْقَانِتِينَ )([1]) .
هل الإقتداء بالمثل الأعلى أمر مستحيل ؟
إذا كان كذلك ، فكيـف يأمر الله به ، وهو الّذي لا يكلِّف نفساً إلاّ وسعها ؟!
وإذا كان الاقتداء أمراً مُمكناً، وهو كذلك ، فلا بدّ إذن من دراسة القدوة ، والتأمّل في محطّات حياته المختلفة ، فكراً وسلوكاً ، حتّى يتبيّن المواقف الرائدة لهذه الشخصية أو تلك، ونقتدي بها عندما نمرّ في حياتنا بمثل تلك المحطّات ، لنتّخذ فيها نفس المواقف العظيمة هنا وهناك .
أوّلاً : مريم العذراء (عليها السلام)
لا نريد هنا أن نتناول قصّة حياة مريم العذراء (عليها السلام) فهي معروفة ، وإذا كنّا نشير إلى مقاطع من هذه القصّة فلحاجتنا إليها في التعريف ببعض الدروس والمواقف المستفادة منها . وهذا ما سنفعله مع أيّة شخصيّة نسائية نموذجية أخرى .
المنذورة لله :
لم ترزق أمّ مريم بولد لأ نّها كانت عاقراً فالتجأت إلى الله سبحانه وتعالى ضارعة متوسّلة أن يرزقها ولداً يكون نذراً خالصاً للعمل في بيت المقدس :
(إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ ا لْعَلِيمُ )([2]) .
إنّ لمريم (عليها السلام) كمولود منذور لله خصوصيّة خاصّة ، لكنّ امرأة عمران التي لم تحمل من قبل لم تكن تريد مولوداً تحتكره لنفسها ، بل لتضعه في خدمة الدِّين والشريعة وهو جنين في بطنها .
ولعلّنا قرأنا وشاهدنا أمثلة لأمّهات أنشأن أبناءهنّ منذ نعومة أظفارهم على أن يكونوا مشاريع عطاء أو استشهاد في سبيل الرِّسالة الإسلامية ، أو أ نّهنّ فتحن لهم الطريق إلى خدمة دين الله
( 3 )
العظيم في علم وفي عمل ، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على وعي فائق في أنّ المولود ـ ذكراً كان أم اُنثى ـ هو هبة الله ووديعته ، وأن تكون هذه الهبة موهوبة في خدمة الدِّين فإنّ ذلك هو عين العقل والصلاح ، وغاية الوعي لقوله تعالى : (إِنّا للهِِ وَإِنّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ )([3]) .
وكم هو رائع ، أن نستحضر هذا المعنى في أن يكون أولادنا على أهبة الاستعداد لخدمة الرِّسالة الإسلامية ، حتّى إذا احتاجتهم في أمر من أمورها ندبناهم إليها ، ذلك لأنّ هذا هو أفضل شكل من أشكال شكر النعمة (نعمة الولد) وأرقى درجات الوعي الإيماني أن يكون عمرنا بذلة في طاعة الله .
ونجد مصاديق ذلك على لسان أنبياء الله الذين كانوا يطلبون من الله تعالى أن يوفِّقهم لشكر نعمتـه بالتوفيق للصلاح ، هم وأبنـاءهم ، كما نجد ذلك في دعاء ، إذ يقول : «رَبِّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمتَ عليَّ وأن أعمل صالحاً ترضاه ، وأصلِح لي في ذرِّيّتي ، إنِّي تبتُ إليكَ وإنِّي من المسلمين» .
مسألة الأُنثى والذّكر :
أجاب الله تعالى دعاء امرأة عمران وأنالها سؤلها فوضعت مولوداً اُنثى (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالاُْنْثَى )([4]) .
وفي أكثر من مكان من القرآن الكريم يقرِّر الله سبحانه وتعالى ـ وهو خالق الجنسين ـ أنّ الذّكر كالاُنثى وأنّ الاُنثى كالذّكر في النظرة الإلهية والإسلامية للمخلوقين الكريمين ، وإذا كان هناك ثمة فوارق بين هذا الجنس وذاك الجنس فهو ليس تفضيلاً في التقييم النهائي لتجربة الرجل أو لتجربة المرأة في الدّنيا ، وإنّما هو تمـييز من حيث المواهب والقدرات حيث أعطى لكلّ منهما حاجته منها ، وليست المسألة محلّ مقارنة، بمعنى أ نّنا يمكن أن نقارن بين رجل ورجل في إمكاناتهما ، وبين امرأة وامرأة في امكاناتهما، فالقوّة الجسدية العضلية ـ مثلاً ـ هي خصيصة من خصائص الخلقة الرجوليـة ، فكيف أقارنها بقوّة المرأة الجسدية الرقيقة والضعيفة البنية التي هي ليست من خصائصها ، والحنان الغامر والعاطفة الجيّاشة صفة اُنثوية ، فكيف أقارنها مع عاطفة الرجل ! أمّا الاستثناءات ، فلا يُقاس عليها ، كأن نرى امرأة تفوق الرجل في قواه البدنية ، أو نرى رجلاً يتفوّق على المرأة في عاطفتها ، وما شاكل ذلك .
إنّ ما يهمّنا من ذلك أنّ الذّكر والاُنثى جنسان متكاملان لا تمشي الحياة بدونهما بشكل سويّ، وإلاّ فإن قامت على قدم واحدة فهي عرجاء، كما أنّ الله سبحانه وتعالى جعلنا في ميزان العمل أكفّاء ، وهو يحاسبنا على ما أعطانا لا على حيث الجنس ، فهو
( 4 )
لا يفضِّل ذكراً على اُنثى ولااُنثى على ذكر إلاّ بالتقوى (يَا أَ يُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَر وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ )([5]) . كما أنّ العمل هو ميزان آخر للتفاضل (لِنَبْلُوَهُمْ أَ يُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً )([6]) . يضاف إلى ذلك أنّ الجهاد في سبيل الله معيار آخر من معايير التفاضل (وَفَضَّلَ اللهُ الُمجَاهِدِينَ عَلَى ا لْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً )([7]) .
ولهذا كلّه جاءت المساواة واضحة على هذا الصعيد (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُـمْ أَنِّي لاَ أُضِـيعُ عَمَلَ عَامِل مِنْـكُم مِن ذَكَر أَوْ أُنثَى بَعْضُـكُم مِن بَعْض )([8]) .
أمّا قوله تعالى : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالاُْنثَى )([9]) فالمراد بذلك القدرة على أداء الخدمة في بيت المقدس، حيث كانت أمّ مريم قد نذرت وليدها لهذا الغرض ، وإذ جاء ولدها بنتاً ، فإنّها تصوّرت أنّ الاُنثى لا تستطيع أداء تلك الخدمة بنفس أداء الرّجل ، ومع كل ذلك ، فلقد باركَ الله في مريم ، وجعلها صدِّيقة ، وخدمت الدِّيـن بما لم يوفّق لذلك كثـير من الرجال .
أهمّية التسمية :
تقول امرأة عمران : (وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ )([10]) . ومريم في لغة النصارى ( العابدة والخادمة ) وبذلك فإنّ امرأة عمران أرادت أن تحقِّق المطابقة بين الإسم والمسمّى ، وهذا درس آخر نستفيده من قصّة هذه المرأة النموذج .
فكم هو مهم أن نُسمِّي أبنـاءنا وبنـاتنا الأسماء الجميلة والمعبِّرة والموحية ، التي يأنسون بها كما يأنس الذين ينادونهم بها . ولهذا كان من حقّ الإبن على أبيه أن يحسن تسميته ، كأن يكون إسماً يحمل معنى جميلاً ، أو يرمز إلى شخصية مرموقة ، أو ينطوي على معنى نبيل .
فللإسم تأثيره الواضح على صاحبه، وله مردود نفسي حسن عليه إن كان جميلاً ، وسيِّئ إن كان قبيحاً . ومن المؤلم أن نرى المفارقة بين اسم يحمل معنى جميلاً وبين سلوك لصاحبه يحمل معنى قبيحاً .
إنّ اسم ( ودود ) يزداد تأ لّقاً وجمالاً إذا كان صاحبه ودوداً بالفعل ، وإن اسم ( سناء ) يتأ لّق أكثر إذا كانت صاحبته تجمع إلى سناء الوجه سناء الخلق الرفيع . كما أنّ إسم ( محمّد ) يرتفع بصاحبه ليتذكّر أ نّه حامل لاسم أعظم شخصيّة في التأريخ الانساني والرِّسالي فيحرص على أن
( 5 )
يتمثّله ، وانّ اسم (فاطمة) جدير بأن يذكّر صاحبته أنّ هذا هو اسم أعظم امرأة نذرت حياتها كلّها لله .
التربية الحسنة :
بعد أن تقبّل الله مريم كهبة من امرأة فرعون (وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا )([11]) ، فليس يكفي أن يتمنّى الانسان لمولوده أن يكون من الذرِّيّة الصالحة ، وأن يعيذه من الشيطان الرجيم ، بل لا بدّ من أن يعمد إلى تربيته تربية صالحة ، وأن يتعهّده بالعناية والرعاية الحسنة حتّى يأخذ مكانه اللاّئق في خدمة الرِّسالة والمجتمع الإسلاميّ الذي ينتمي إليه .
هكذا أراد الله تعالى لمريم (عليها السلام) أن يتكفّلها العبد الصالح ( زكريّا ) وهكذا أراد لنبيّه موسى (عليه السلام) أن يعيش في كنف آسية بنت مزاحم ، وهكذا أراد لنبيّه عيسى (عليه السلام) أن تحضنه مريم مثلما أراد لنبيّه محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتكفّله ملك منذ أن كان فطيماً وأن يرعاه عمّه أبو طالب (رضي الله عنه) بعدما أضحى يتيماً .
فلقد نمت مريم وترعرعت وشبّت حتّى امتلأ قلبها بالتقوى والصلاح والعفّة ، الأمر الذي يشير إلى أنّ حاجة الإنسان إلى الكفالة والتعهد والرعاية حاجة ملازمة حتّى يشبّ عن الطوق ويستقلّ بشخصيّته ، بل إنّ حاجته تلك لا تنتهي إلاّ بانتهاء حياته .
العفّة تاج :
ويشاء الله تعالى أن يهب مريم غلاماً من غير زوج كما هي سنّة الله في خلقه بنتاج الذّكر والاُنثى معاً ، وإذا بها تحاجج المَلك الذي جاء ليهبها ولداً (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً )([12]) . ولم تكتف بذلك بل نأت به عن قومها (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً )([13]). حتّى لاتلوك الألسن سمعتها . وحينما تضع مولودها تتمنّى لو أنّ الأرض تنشقّ فتبتلعها (قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذَا وَكُنتُ نَسْياً مَنسِيّاً )([14]) . وبالفعل فإنّ ما كانت تخشاه من اللّوم والتقريع والتشنيع ، واجهته حينما جاءت تحمل عيسى (عليه السلام):(يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْء وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً )([15]) . ولم تخرس الألسنة الحادّة إلاّ بنطق الغلام الذي أنطقه الله وهو في المهد ليدفع بذلك عن أمّه السُّوء والأقاويل والتّهم، وهو أقسى وأشدّ ما تعانيه امرأة طاهرة عفيفة نجيبة لم يدنّس سمعتها شيء .
( 6 )
إنّ هذه المشاهد والمواقف المشحونة بالخوف وبالقلق على نصاعة ونزاهة السمعة النقيّة أن يمسّها الناس بسوء ويلوّثوها بالاتِّهامات الزائفة الباطلة تكشف عن مدى حرص الفتاة، والمرأة بشكل عام، على السمعة النزيهة والمحاذرة من الطعن في عفّتها وقذفها بالفاحشة ، فليس أكثر إيلاماً من أن تحارب الفتاة في شرفها وهو أعزّ ما تملك .
لقد حاول بعض الكتّاب والكاتبات الحطّ من قيمة الشرف، واعتبره آخرون واحداً عند المرأة وعند الرجل، وتساءل: لماذا تعاقب أو تحاسب الفتاة إذا استهانت بشرفها ولايحاسب الفتى أو الرجل؟ وهو كلام سليم في أنّ الشرف لايتجزّأ، وإنّ التزام الحشمة والعفّة من قِبَل المرأة يحافظ على شرفها وعلى شرف الرجل أيضاً (وَلاَتَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى )([16]). (وَلاَيُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ )([17]). (فَلاَتَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ ا لَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ )([18]) .
أمّا التوهـين من مسألة الشرف ، فدعوة تستبطن سوءاً وخبثاً لا يخفيان على الفتاة اللّبيبة .
ثانياً : ابنة شعيب (زوجة موسى (عليه السلام) )
تحاشي الاختلاط :
خرج موسى (عليه السلام) من مصر خائفاً يترقّب فيمّم وجهه شطر (مدين) .. وما أن وصلها حتّى رأى حشداً من الناس قد تزاحموا على مورد ماء كلٌّ يريد أن يسبق الآخر إليه . والتفت فرأى فتاتين تفصلان أغنامهما حتّى لاتختلط بسواها من أغنام الآخرين ، وتنتظران انصراف الرعاة حتّى يتقدّمن للسـقي ، فتقدّم منهما ـ بكلّ أدب واحترام ـ مستوضحاً عن إحجامهنّ عن السقي ، فأخبرتاه أ نّهما لا تستطيعان ذلك والزحام على المورد شديد ، فقرّرتا أن ينصرف الرعاة الرجال ثمّ يستقين ، وعرف منهما أنّ أباهما شيخ كبير وقد أوكل لهما مهمّة سقي الأغنام ، فشمّر موسى (عليه السلام) عن ساعديه وسقى لهما .
من ذلك يتّضح كيف أن ابنتي شعيب (عليه السلام) كانتا على جانب كبير من العفّة والحشمة والتهذيـب ، وأ نّهما قد تلقيتا تربية أسرية حسنة ، وذلك من خلال رفضهما مزاحمة الرجال بالمناكب . ومن تصرّفهما العفيف هذا يتّضح أيضاً أ نّهما تدركان مساوئ الاختلاط والتدافع مع الرِّجال ممّا يتنافى مع عفّة الفتاة ويزرع الريبة في قلوب الرجال .
( 7 )
ولو أجلنا النظر في عالمنا اليوم لرأينا كيف جنت عملية الاختلاط بين الجنسين على أخلاق المجتمعات المسلمة ، فأفسدتها وميّعتها ، بل وداستها تحت الأقدام حتّى أنّ الحياء انتهى بين بعض شرائح هذا المجتمع أو كاد بعد أن شاع الاختلاط في المدارس والجامعات ومحلاّت العمل والأماكن العامّة والخاصّة ، حتّى أنّ حالات المعاشرة الشاذّة ازدادت ـ جرّاء ذلك ـ بشكل مخيف .
لقد اُجريت ـ ذات صيف ـ تجربة جنسية في إحدى الجامعات الاميركية اُطلق عليها (التجربة الطلابية المثيرة) حيث عمدت عمادة الجامعة في العطلة الصيفيّة إلى جمع كلّ طالب وطالبة في غرفة مشتركة ليتشاطرا السكن فيها وليضبطا خلال أسبوع تصرفاتهما ، وليقدّما ـ بعد انتهاء التجربة ـ تقريراً صريحاً عمّا حصل خلال ذلك الأسبوع .
إنّ هذا الاختلاط وما صاحبه من تسيّب وتحرّر وإباحية في العلاقات الجنسية ، أدّى بالعالَم إلى أن يكون مهدّداً في أمنه واستقراره ، فهذه الاُمم المتحدة ترفع شعار «الايدز تهديد للأمن الدولي»، وها هي عشرات الملايين من البشر تواجه خطر الموت والانقراض ، ولم يكن انتشار هذا المرض وغيره من الأمراض الجنسية الخبيثة إلاّ نتيجة للعلاقات الجنسية المحرّمة .([19])
وهذا أندريه لووف ، الحائز على جائزة نوبل ، وأحد كبار العلماء البيولوجيـين ومن روّاد علم الفيروسات ، يحدِّثنا عن هذا الموضوع ، فيقول : «أصبح المجتمع إباحياً ، وحدث تحرّر ظاهري للشباب ، ويوماً بعد يوم تتم الاتصالات الجنسية قبل أوانها، ولا أستطيع القول بأنّ في ذلك خيراً ، لأنِّي لستُ من دُعاة الأخلاق ، ولكنِّي ألاحظ كطبيب أنّ هذا التحرّر الجنسي هو السّبب في انتكاسة كُبرى ، لتفشِّي الأمراض الجنسية ...» ([20]) .
وعلى هذا يمـكن أن نقيس أجواء الحفـلات المشتركة والمدارس المختلطة والنوادي المزدوجة وأماكن اللّهو أو العمل التي تكثر فيها الخلوات التي لاتراعي ضابطاً أخلاقياً أو قانونياً أو وازعاً من ضمير.
لقد أغلقنا مسامعنا عمّا تكلّم عنه القرآن بلسان عربيّ مبين (وَإِذَا سَأَلْـتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَاب )([21]) . وكان في أسماعنا وقر عن قول رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «ما اختلى رجل وامرأة إلاّ وكان الشّيطان ثالثهما» . وبدلاً من ذلك فتحناها على مصراعيها لدعوات الغرب ونداءاته في التحلّل والتحرّر والانفلات .
( 8 )
إنّ الاختلاط بحدّ ذاتـه ليس مشكلة إن روعيت فيه الضوابط الشرعية ، فالرجال والنِّساء في بيت الله يختلطون ، لكن ثمة فارق بين اختلاط واختلاط ، فحينا تراعى آداب الحشمة والعفاف من لدن كلّ جنس من الجنسين فلا بأس ولا غضاضة . أمّا حينما يتّخذ الاختلاط جوّ الانفتاح الداعر، أو الخلوة المحرّمة، أو الابتذال والتحرّش والمعاكسة، فإنّ قصص التسافل والميوعة تتكاثر ممّا يصعب حصرها أو ضبطها .
إنّ الله يضرب ببنتي شعيب مثلاً في العفّة لكلّ فتاة وعت الحقيقة وأبصرتها بعـين المـدرك لما يراد من ورائها ، فابتعـدت عن أجـواء الانحراف ولم تنطل عليها شعارات الحرِّيّة المنفلتة .
هذا الحياء المحبّب الذي يجعل كلاًّ من الفتى والفتاة والرجل والمرأة يحترم حـدوده وحدود الله فلا يتعدّاها ، يتمثّل أيضاً في التعـبير عن حركة ابنة شـعيب الكبرى التي جاءت موسى (عليه السلام) والذي كان قد تولّى إلى الظلّ بعد أن سقى لهما (تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء )([22]) أي مشية الفتاة الخفرة التي تنكِّس نظراتها إلى الأرض ، والتي لاتبدي في مشيتها أيّة حركة تثير الريبة في قلب الرجل لا سيما القلب الذي فيه مرض .
ويتمثّل كذلك في موقف ثالث ، حينما تريد هذه الفتاة أن تكون دليل موسى (عليه السلام) إلى بيت أبيها ، فيطلب منها أن تتخلّف ويتقدّم حتّى لا يقع نظره عليها . فما أروع هذه العفّة التي تصنع المجتمع العفيف : فتاة تمشي على استحياء ، وفتى يتصرّف باستحياء ، فيعين كلّ منهما الآخر على حيائه وعفّته ، ولذا كانت الدعوة القرآنية مشتركة لم تستثنِ جنساً دون آخر (قُل لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ )([23]) ، (وَقُل لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ )([24]) .
اجتناب الخضوع في القول :
يقول تعالى : (فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ ا لَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ )([25]). ولقد أوتيت الفتاة ـ بصفة عامّة ـ صوتاً رقيقاً ذا نبرة عذبة وجرس جميل كجزء من أنوثتها ، فإذا رقّقت صوتها أكثر إلى درجة الخضوع فإنّ ذلك ممّا يثير غريزة الرجل ويطمعهُ فيها .
فكيف يا ترى تصرّفت ابنة شعيب مع موسى (عليه السلام) ؟ لم يرد ذكر ذلك في القصّـة لكنّ جوّها العام يوحي أ نّها كما جاءت تمشي على استحياء ، تكلّمت أيضاً باستحياء (قَالَتْ إِنَّ أَبِي
يَدْعُوكَ لِيَجْزِيكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا )([26]) . لقد طلب منها أبوها أن تدعوه ليجزيه أجر ما سقى لأغنامه ، فجاءته بألفاظ مهذّبة توصل الرسالة بأمانة .
( 9 )
إنّنا اليوم نشاهد خرقاً واسعاً لذلك ، ففي المطارات وفي المشافي وفي الفنادق والمعارض وعلى الهواتف فتيات يخضعن في القول ويتناومن فيه ، وعلى ما يبدو فإنّ ذلك أضحى جزءاً من مواصفات الفتاة التي تشغل عملاً في هذه الأماكن . وهي خدعة رجالية ماكرة، يُراد بها نقل الأجواء الحميمـة من غرف النوم إلى أماكن العمل ، لأغراض مادية أو مطامع شهوانية . وقد انطلت ـ للأسف الشديد ـ الحيلة على جمع كبير من الفتيات، حتّى لقد حورِبَت التي لاتستجيب لهذا الشرط، بمنعها من العمل ، وإن حازَت على مواصفات نبيلة وكفاءة عالية .
إنّ هذا النوع من التعامل مع المرأة ، والقائم على استغلال أنوثتها وجسدها ، هو نوع من أنواع التمـييز الجنسي والابتزاز الاقتصادي ، الذي يتعامل مع المرأة كاُنثى لا كإنسان ، وكجسد لا روح ، وكأداة من أدوات جلب المنفعة ، لا غير ، وهو ينمّ أيضاً عن نظرة دونيّة تحطّ من قيمة المرأة ودورها في الحضارة الانسانية .
إخطب لبنتك !
لقد سادت في مجتمعاتنا الإسلامية نظرة ذكورية لمسألة الخطبة ، فالمعتاد أنّ الرجل هو الذي يخطب ودّ الفتاة لما تتمتّع به من حياء اُودع في أصل خلقتها ، وليس للفتاة ولا لأحد من أسرتها أن يفاتح رجلاً في الزواج من ابنته إن كان أباً أو أخته إن كان أخاً .
شعيب (عليه السلام) يعلِّمنا هنا ـ والتعليم تعليم القرآن بالنتيجة ـ أنّ الأب يمكن أن يخطب لابنته رجلاً ترضاه . فلمّا رأى من كرم أخلاق موسى (عليه السلام) وشرفه وغـيرته وأدبه الجمّ استجاب لطلب ابنته (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ ا لْقَوِيُّ ا لاَْمِينُ )([27]) .
إنّ ابنة شعيب هنا تختار زوجها ضمن مواصفات القوّة والأمانة وهي خير ما يميِّز الرجل المؤمن ، ممّا يعلِّمنا ـ كفتيات ـ أن لا ننظر إلى الشكل الخارجي للرجل فقط ، فإذا كانت القوّة مظهراً للرجولة ، فإنّ الأمانة هي المظهر الموازي لها . ولذا قال شعيب (عليه السلام) معتدّاً برأي ابنته وحنكتها وحكمتها في الاختيار (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ )([28]) . ولم يلزمه بإحداهما بل ترك الخيار له .
إنّ الأب الذي يرى في رجـل أو شـاب سـيماء التقوى والصلاح والأمانة والشجاعة ، لا ينتقص من كرامته ولا كرامة ابنته شيئاً إن هو خطبه إليها . فهو بذلك يحفظ لها حاضرها ويؤمِّن لها مستقبلها، في ظلّ رعاية رجل قويّ أمين .
( 10 )
هذا هو منطق القرآن الذي نجد بينه وبين واقعنا تناقضاً كبيراً ، فإذا كان العرف السائد يعتبر إقدام الأب على خطبة رجل صالح لابنته عيباً ، وما هو بعيب ، ففي الأدنى أن يختار لها من يتوافر على تلك الصفات فيمن يتقدّمون لخطبتها .
ويمكن القول إنّ استخدام شعيب (عليه السلام) لموسى (عليه السلام) كان يقتضي الاحتزاز في أنّ هناك رجلاً أجنبياً يدخل بيته ولديه فتاتان غير متزوّجتين ، ولذا فقد أحسن صنعاً في اتخاذ خطوة الزواج حتّى يصبح موسى (عليه السلام) من أهل البيت الذي يحرص على سمعته وصونه كحرص ربّه عليه .
وهذه لفتة مهمّة جدّاً ، حيث نرى هذه الأيام أنّ بعض الشبّان ممّن يعملون في خدمة بعض آباء الفتيات ، بل حتّى أصدقاء الآباء والإخوة ممّن يسمّى أحدهم بـ (صديق العائلة) يتردّدون على بيوتهم وربّما من غير استئذان أحياناً ، ويتحدّثون مع بنات الأسرة أحاديث لا تحرّج فيها ممّا نتج عنه أسوأ العواقب وأوخمها ، خاصّة إذا كان الداخل إلى هذه البيوتات ليس كموسى (عليه السلام) أو كيوسف (عليه السلام) يراعي حرمة البيت الذي يدخله، وخاصّة إذا لم تكن الفتاة حذرة تتصرّف باستحياء كابنة شعيب (عليه السلام) .
مناصرة الزوجة المؤمنة لزوجها :
بعد أن أنهى موسى (عليه السلام) خدمة السنوات العشر التي تمّ الاتفاق عليها بينه وبين شعيب (عليه السلام) طلب العودة إلى وطنـه الأصليّ (مصر) فأجازه شعيب ، فاصطحب أهله ، وفي طور سـيناء خاطبه الله تعالى بالنبوّة : (قَالَ لاَِهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِيّ آتِيكُم مِنْهَا بِخَبَر أَوْ جَذْوَة مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ )([29]) .
كلّمه الله وعاد إلى أهله وأطلعهم على ما خصّه الله به من كرامة النبوّة ، فباركت له زوجته ـ وهي ربيبة بيت النبوّة ـ دعوته ، وطلبت منه أن يمضي على ما أمره الله ، فسرّ بها لمناصرته وتأييده .
إنّ زوجة موسى (عليه السلام) في موقفها هذا تقدّم النموذج الصالح للمرأة التي تكون عوناً لزوجها في دينه ودنياه ، والتي تزن الأمور بميزان العقل والحكمة لا ميزان العصبية والهوى . فحبّ المرأة لزوجها قد يدفعها لاتّباعه أحياناً ، لكنّ المرأة ذات العقل الراجح والمؤمنـة بربِّها إيماناً صادقاً ، إنّما تطيع زوجها وتتبعـه فيما فيه طاعة لله ومرضاة له ، ولا يحول حبّها له دون رفـض ما يسخط الله من معاصي فـ « لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق » .
وبناءً على ذلك، فإنّ خير النِّساء امرأة مؤمنة صالحة تؤازر زوجها على الإيمان بالله وطاعته ، فهي فضلاً عن أ نّها ستربح قلبه بأن يزيدها حبّاً على حبّ ، فإنّها تربح نعيم الآخرة
( 11 )
الذي لا يدانيه نعيم ، وبالتالي فبزوجين مؤمنين صالحين ( كموسى وابنة شعيب ) يمكن أن نعمِّر مجتمعاً مؤمناً صالحاً، وهذا هو غاية ما يريده الله من عباده الصالحين .
إنّ نقطة الانطـلاق تبدأ من هـنا .. من نواة الأسرة الصالحة .. فالدائرة الواسعة مبتدأها نقطة ، وإنّ البناء الضخم يبتدئ بلبنة صغيرة تُسمّى الحجر الأساس .
ثالثاً : هاجر (أُمّ إسماعيل (عليه السلام) )
الطاعة المطلقة :
إذا أردنا أن نبحث عن نموذج للمرأة المسلمة التي سلّمت تسليماً مطلقاً لله سبحانه وتعالى، بحيث أنّ حياتها كانت خطّاً متصلاً من الطاعة الخالصة المخلصة لله، لمثلت أمامنا (هاجر) التي لعبت مع زوجها (إبراهيم (عليه السلام)) وابنها ( إسماعيل (عليه السلام)) دوراً رائعاً في انشاء أسرة مسلمة بكلّها .
كانت خادمة لسارة زوجة إبراهيم (عليه السلام) وهاجرت من مصر إلى الأرض المقدّسة في فلسطين، ولمّا كانت سارة عقيماً أشارت على زوجها بأن يتزوّج أمتها هاجر الوفيّة الكريمة المطيعة الأمينة ، فتزوّجها وولدت له غلاماً زكيّاً هو إسماعيل (عليه السلام) .
وشاءت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يهاجر إبراهيم (عليه السلام) بهاجر وابنها إلى واد غير ذي زرع (مكّة المكرّمة) ليتركها هناك ويرجع إلى فلسطين، وراحت هاجر تسترحم إبراهيم (عليه السلام) وتستعطفه أن لايتركها ورضيعها في هذه الأرض القاحلة القـفراء والوحشة المحيطة المخيفـة ، وما أن قال لها إنّ ذاك هو أمر الله عزّ وجلّ حتّى استكانت وخشعت وخضعت مستسلمة لأمر الله وركنت راضية لرحمته قائلة : « إنّ الله لن يضيِّعنا » !!
إنّنا فيما نحاولُ أن نستهدي تجاربَ القرآن ونسترشد سير العظيمات من النِّساء الخالدات ، نمتلئ إجلالاً وإكباراً لموقف هاجر التي تُترك في الأرض الجرداء العزلاء الموحشة وهي تكابد معاناة فريدة من نوعها ، وقد أوت إلى ركن وثيق وهو رحمة الله تعالى : « إنّ الله لن يضيعنا » فكأ نّها تقول نحن عيال الله من قبل أن نكون عيال إبراهيم (عليه السلام) ، ولن يكون إبراهيم (عليه السلام) ـ مهما امتلأ قلبه حبّاً لنا وعطفاً علينا ـ أرأف من الله بنا .
هذا الشعور الروحيّ المفعم باليقين وبروح الله حينما يتحوّل لدينا من مجرد إحساس أو دفقة أو خفقة إلى واقع نحياه ، تتحوّل الصحراء الجدباء من حولنا إلى رياض وجنان .
أ لَيْسَ الكون ـ كلّ الكون ـ قبضَ يده وطوع بنانه ؟ وهل الله في الأرض المقدّسة (فلسطين) هو غير الله في الأرض المقدّسة (مكّة) أو حتّى غيرها من بقاع الأرض ؟ هل رحمته مجزّأة ، أو فيها تمييز كما هو التمييز الانساني في الرحمة ؟ أليست رحمته وسعت كلّ شيء …
( 12 )
إنّ الإجابات الشافية لكلّ تلك الأسئلة كانت تتنزّل على قلب هاجر، لتربط عليه وتملأه بدل الخوف أمناً ومكان الوحشة اُنساً وسروراً. فكلمة «لن يضيِّعنا» استشعارٌ كامل وحميم في أنّ الذي يتّقي الله يجعل مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب . ولعلّ كلّ منّا قد جرّب ذلك في المواطن الخالصة المخلصة .
امتثلت (هاجر) للقضاء المحتوم بصدر منشرح ، وتحمّلت العبء الثقيل بصبر جميل حتّى نفد الماء الذي معها فلم تجد ماءً يبلّ عطش رضيعها ولا لبناً في صدرها تسقيه منه .. وكان الطفل يئن ويصرخ تحت وطأة الظمأ ، وهاجر تتقطّع حسرات وهي تراه يتلوّى من الألم ، وذلك كلّه في عين الله وما دام كذلك فهو هيّن ، فماذا صنعت ؟
هل استسلمت للأمر الواقع ؟ هل قالت : لا جدوى .. لقد اُسقط ما في يدي ؟ هل انتظرت أن يحلّ الموت بها وبرضيعها ؟ هل اكتفت بالتضرّع إلى الله أن ينجيها من المأزق الحرج ؟
لقد هامت على وجهها تعدو وتهرول يدفعها التياعُ صغيرها إلى التشبّث بأدنى قشّة .. اعتلت جبل ( الصفا ) علّها تجد ماءً حولها ، ثمّ سعت نحو سراب لمحته عند جبل ( المروة ) وقد حسبته ماءً حتّى إذا جاءته لم تجده شيئاً ، ثمّ كرّت راجعة إلى الصفا . وهكذا سبعة أشواط لم تكلّ ولم تملّ ولم يوقعها اليأس في براثنه ، ففي كلّ شوط تمنّي النفس بالعثور على الماء في مكان ما .. كان الأمل يطفح في جوانحها .. جفّ الماء أو انتهى ولكنّ الأمل لم يجف ولم ينته «إنّ الله لن يضيِّعنا» وهل يضيّع الله عبداً امتثل لأوامره واستجاب لإرادته وأسلم أمره إليه ؟!
في نهاية الشوط السابع يتفتّح الأمل باسماً فيسيل في عروقها برداً وشراباً حين ترى طفلها يفحص الأرض برجليه والماء ينبجس من تحت قدميه لا ليرويه أو يرويها فقط بل ليروي الأجيال اللاّحقة كلّها .
لقد كان ماء (زمزم) وسيبقى سلسـلاً (يروي) وارديه كما (يروي) الذكرى للذاكرين ممّن يمرّون بتلك الديار فيتعظون .
(هاجر (عليها السلام) ) في أملها برحمة الله ; وثقتها العالية بألطافه الظاهرة والخفيّة ، تقول لنا : قد لا تصلون إلى مبتغاكم في المحاولة الأولى ، ولا في الثانية ولا حتّى في الخامسة والسادسة ، لكن ذلك ينبغي أن لا يفتّ في عضدكم ، ولا يهدم جسور اليقين وحسن الظنّ بالله في نفوسكم ، فمن سارَ على الدرب وصل، وما أراد الانسان شيئاً ـ مهما كان صعباً وبعيداً ـ إلاّ ناله بهمّته « لو تعلّقت همّة أحدكم بالثريا لنالها » .
(هاجر) تقول لنا : إنّ أعدى أعداء الإرادة والثقة بالله هو اليأس القاتل الذي إنّما عُدّ كفراً ، لا لأنّ اليائس انسان فاقد لحسن الظنّ بالله فحسب ، بل لأ نّه لا يعرف طبيعة وحقيقة الرحمة الإلهية التي قد تُدرِك الانسان المؤمن وهو في بطن الحوت كما فعلت مع يونس (عليه السلام) .
( 13 )
وتتعرّض (هاجر) التي عاشت التجربة الصعبة واجتازتها بنجاح باهر، لاختيار أشدّ صعوبة وأثقل على نفس الأم، فحين يأتيها الشيطان ليخبرها أنّ إبراهيم (عليه السلام) ذهب بابنها ليذبحه ، تسأله : ولِمَ يذبحه ؟! فيقول الشيطان : زعم أنّ ربّه أمره بذلك ! فتجيبه على الفور : إذن فقد أحسن أن يطيع ربّه !!
ولعلّ هذا الخط الموصول من الطاعة التامّة والعبودية المستسلمة لقضاء الله وقدره ، إنْ في الامتثال للبقاء في صحراء مكّة وهي الأرض الميتة إلاّ من نسائم رحمة الله ، والتسليم لأمر الله الذي لا يضيّع مخلصاً ولا مخلصة قطّ ، وإنْ في القبول بإرادته عزّ وجلّ ذبح إسماعيل (عليه السلام)الذي هو قرّة عين أبيه وأمّه ، يقدِّم المثال الناصع والرائع لامرأة على غاية من معرفة الله ، وعلى غاية من تقديم طاعته على كلّ طاعة .. فطالما أ نّنا (لله) وأ نّا (إليه) راجعون فكلّ مصيبة وكلّ شديدة وكلّ نائبة من نوائب الدهر تهون .
ولهذا فإنّ المرأة التي تتربّى على هدي هاجر وتربِّي بناتها عليه ولو بحدود القدرة والاستطاعة ، توسّع من إطار التجربة القرآنية من نموذج في التأريخ إلى نماذج أخرى في الواقع . ولقد شهدت الأمّة المسلمة في تاريخها «هواجر» كثيرات وإنْ بنسب متفاوتة . وهذه هي الغاية من ضرب المثل بها وبأمثالها من المؤمنات الصالحات القانتات الطائعات المجاهدات .
رابعاً : آسية بنت مزاحم (زوجة فرعون)
لو أنّ أيّة واحدة منّا كانت تعيش في قصر منيف هو أفخم قصر في البلاد بأسرها ، بل هو أشبه بجنّة مصغّرة تجري من تحتها الأنهار ، وفيها من الخدم والحشم وألوان الخدمة الصغيرة والكبيرة ما يجعل زوجة ربّ القصر أميرة من الأميرات ، بل سيِّدة القصر والمصر الأولى ، تتنعّم بالديباج والذهب والفضّة والرياش وما لذّ من الأطعمة وطاب ، ولا تتمنّى شيئاً ممّا تحت أيدي الدّنيا إلاّ ونالته ، وما أمرت بشيء إلاّ واستجيب لها ، هل كانت تضرب كلّ هذا النعيم الباذخ عرض الجدار ، وتعتبره تافهاً لا قيمة له في قبال نعيم مؤجّل ، وجنّة ستأتي ، ووعود مدخرة ؟!
هذا هو بالضبط ما فعلته هذه المرأة النموذج .
هي آسية بنت مزاحم زوجة فرعون موسى ، أكثر فراعنة عصره والتأريخ طغياناً وعتوّاً .. زوجـة ذاك الذي كان يقـول : (أَنَا رَبُّكُمُ ا لاَْعْلَى )([30]) .
وهي ثانية اثنتين ضرب الله بهما مثلاً للذين آمنوا لتكونا قدوة للّذين آمنوا على مدى التأريخ الانسانيّ (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ ا لْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )([31]) .
( 14 )
وهي من أكمل النِّساء اللّواتي قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهنّ : «كَمُل من الرجال كثـير ولم يكمل من النِّساء إلاّ أربع : آسية بنت مزاحم ، ومريم ابنة عمران ، وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمّد» .
وهي في حديث آخر من أفضل نساء الجنّة : « أفضل نساء أهل الجنّة : خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمّد ، ومريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون » .
فكيف أصبحت هذه المرأة مثلاً أعلى للنِّساء المؤمنات ؟
لا نعلم عن سيرة آسـية شيئاً قبل كفالتها موسى (عليه السلام) ، فالقرآن سكت عن المرحلة السابقة على ذلك ، وما سكت عنه القرآن نسكت عنه ، لنتحرّك مع آسـية (رض) منذ مرّ الصندوق الذي يحمل الطفل الرضيع (موسى الكليم (عليه السلام) ) في النيل على مقربة من قصر فرعون ، فلقد التقطه آله ووضعوه بين يديها ، وكان فرعون يقتل كلّ صبي يولد لبني إسرائيل، فأراد قتله، فأبت عليه قائلة : (قُرَّةُ عَيْن لِي وَلَكَ لاَتَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً )([32]) .
لقد ألقى الله تعالى محبّة موسى (عليه السلام) في قلب هذه المرأة الصالحة التي لم يكن لها ولد فتبنّته لينشأ في قصر فرعون . وسواء كانت مؤمنة قبل أن تهتدي على يد موسى (عليه السلام) أو أ نّها آمنت فيما بعد ، فإنّ الذي يهمّنا أ نّها آمنت بربّ موسى (عليه السلام) وكفرت بزوجها الذي يطرح نفسه ربّاً في قبال الله بل يزعم أ نّه الربّ الأوحد ، لقد آثرت النعيم المقيم على النعيم العقيم .
ولأنّ قصر فرعون كان يسبِّح بحمده ويقف صفاً واحداً لامتثال طاعته ، لم يكن أحد يجرؤ على أن يعلن عن إيمانه أو يصرِّح به ، ولذا كان هناك (مؤمن آل فرعون) الذي كان يكتم إيمانه ، وقيل إنّ آسية أيضاً كانت مؤمنة تكتم إيمانها ، والإيمان الكتيم نورٌ في الأعماق يمكن أن يتفجّر في أيّة لحظة .
ترعرع موسى (عليه السلام) في كنف هذه المرأة الصالحة التي منحته حبّاً صادقاً وعناية فائقة ودفاعاً مستميتاً ، فلقد كانت سبباً في نجاة موسى (عليه السلام) من الذبح ، وكان هو سبب نجاتها من الهلاك بأن هداها للإيمان ففتحت مسامع قلبها لدعوته وصمّتها عن تهديدات فرعون وغطرسته، وناصرت موسى (عليه السلام) على عدوّ الله وعدوّه وعدوّها .
فحينما وقفت آسـية على مُفـترق طريق : هذا يؤدِّي إلى الجحيم ، وهذا يؤدِّي إلى النعيم لم تتردّد في الاختيار ، آثرت جنّة الله الخالدة على جنّة فرعون البائدة . لقد خيّرها فرعون في أن تعود إلى طاعته أو أن يصلبها ، فلم تهن ولم تحـزن ، وقالت بإباء السـحرة الذين رفضـوا مثلها عبادة فرعون (فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاض إِنَّمَا تَقْضِي هذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا )([33]) ..
( 15 )
كانت جندياً صلباً من جنود موسى (عليه السلام) . بل من جنود الله البسلاء ، والجندي من هذا النوع هو أخطر جنديّ يواجه الطاغية .. إنّه يُعدّ بألف فارس ، بل بعسكر لجب .
ولأنّ الطغاة لا يملكون لغة الحوار والتفاهم والعفو والمسامحة ، أمر فرعـون بأن تمدّ الأوتاد بين يديه ، فشُدّت بها آسية ، وعُذِّبت أقسى العذاب وأشرسه ، حتّى لاقت وجه ربّها وهي على هذه الحال ، وكانت كلّما عصف بها الألم وعاينت الموت تقول : (رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ ا لْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )([34]) .
مطلبان في اتِّجاه واحد : النجاة من فرعون وعمله الاستكباري ومن قومه الظالمين الفاسدين المفسدين الذين يطيعونه فيما يعصي الله وفيما يستخفّهم به ، ليكون المأوى جنّة المأوى !
ونحن نسير على طريق الإيمان حينما نقف قبالة هذه المرأة المؤمنة الصالحة المجاهدة الشهيدة ، ماذا يتراءى لنا من محاسنها ؟
هل نتمنّى أن نكون مثلها صبراً وجلداً وتحدّياً وصلابة في الحقّ ؟ هل نركل النعيم الزائل الزائف بأقدامنا إذا اصطدم بإيماننا ومبادئنا ورسالتنا ؟ وهل نؤثر جنّات عدن خالدين فيها أبداً ؟ هل نتردّد في الخيار بين رضوان الله الأكبر وبين رضا الطاغية المستكبر ؟!
(آسية (رض) ) أجابت عن هذه الأسـئلة بشكل عملي ، وبصدق وصراحة وشجاعة وثبات ، فلم تتراجع حتّى وهي تتعرّض إلى الموت . والأسـئلة ما زالت مطروحة علينا في كلّ مكان يستبدّ به الطغاة ، وتجرفنا فيه الملذّات ، وتخدّرنا فيه متع الحياة .
هل نستسلم كخشبة في مجرى التيار ، وكريشة في مهبّ الريح ؟ أم أ نّنا نرفض بوعي ، ونبني جسور الإيمان بوعي ، ونقاتل من أجل أنبل ما نحمل من قيم ومُثل بوعي ؟ فإذا جاء الموت جاءنا ونحن في أسعد حالاتنا طاعةً والتزاماً وجهاداً في سبيل الله ؟
هل نكون كآسية ولو بنسبة معيّنة ؟
هذا ما يريده درس القرآن من ضرب المثل للّذين آمنوا : مؤمنين ومؤمنات ، بهذه المرأة المؤمنة .
خامساً : بلقيس (ملكة سبأ)
لله ما يفعل الإيمانُ الحقُّ بأهله .
إنّه يصنع منهم أناساً آخرين .
فإذا فتاةُ الأمس التي ترفل بنعيم المُلك تتنازل عن السطوة والأبّهة والشموخ لتسجد لله الواحد الأحد .
هذه هي (بلقيس) .
( 16 )
أوتيت من متاع الدّنيا ما يُبهر الأبصار ويأخذ بالألباب ، وحسبها أ نّها ملكة لا تُنازع في ملكها ، وتلك هي شهادة الهدهد : (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ )([35]) . كانت وقومها يسجدون للشمس ويعبدونها من دون الله ، وحينما جاء الهدهد بنبئها إلى سليمان (عليه السلام) كتب إليها ما يلي :
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ )([36]) . إنّها دعوة التوحيد لابدّ أن يخفق لواؤها على الكون كلّه لأنّ فيها سعادة الكون كلّه .
قرأت الكتابَ مليّاً ولكنّها لم تتعجّل الردّ وهي صاحبة الكلمة الأولى في المملكة ، فلم تكن ملكة مستبدّة تستأثر بالقرارات المصيرية كهذا القرار .
جمعت وزراءها واُمراءها ومستشـاريها وطرحت عليهم المشكلة التي تتعرّض لها المملكة جرّاء خطاب سليمان (عليه السلام) وطلبت مشورتهم . قالت : (يَا أَ يُّهَا ا لْمَلاَُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ )([37]) .
إنّها تمثِّل النموذج الشورويّ في الحكم (مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ ) فهي تستمزج الآراء وتقلّبها على وجوهها حتّى تدرك الصواب ، ذلك أنّ من شاور الناس شاركها عقولها .
فجمعوا أمرهم وقالوا لها : نحن أصحاب حرب ولسنا أصحاب رأي فانظري ماذا تأمرين ونحن رهن إشارتك (قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّة وَأُولُو بَأْس شَدِيد وَا لاَْمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ )([38]). لقد طلبت عقولهم فأعطوها عضلاتهم ، كما يقال .
أدارت بلقيس نظرها في الوجوه الصارمة فرأت أ نّها مزمعة على القتال ، ولكنّها فاجأتهم بالرأي المخالف لرأيهم .. رفضت الحرب بعدما درست كتاب سليمان دراسة وافية واعية لمراميه .. قرأت ما بين السطور ورأت أنّ دعوته سلمية والتهديد فيها تهديدٌ في حال الرفض للإستجابة لأمر الله، ورأت أنّ سليمان لا يدعو لنفسه وإنّما لإله لم تؤمن به ، فأرادت أن تتبع معه سياسة الاختبار لنواياه :
(قَالَتْ إِنَّ ا لْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ )([39]) . وعدلت عن أسلوب المواجهة المسلّحة إلى اتباع سبيل المصالحة والمهادنة والمساومة ، فقالت : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّة فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ ا لْمُرْسَلُونَ )([40]) .
( 17 )
إنّنا ونحن نتابع خطوات هذه المرأة الحكيمة الجليلة القدر نتلمّس قدراً عالياً من رجاحة العقل والتدبير السياسيّ اللاّفت .
رفض (سليمان (عليه السلام) ) هديّتها ، ولم يرض بأقلّ من أن تأتيه وقومها مسلمين وإلاّ فهي الحرب ، ولمّا علمت إصراره على اتباع رسالته التي هي رسالة الله سمعت وأطاعت هي وقومها وجاؤوه مسلمين .
وهنا طلب سليمان (عليه السلام) أن يأتوه بعرشها قبل أن تصل إليه وأن تُجرى بعض التغييرات عليه بما يموّه عليها منظره (قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ ا لَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهكَذَا عَرْشُـكِ قَالَتْ كَأَ نَّهُ هُوَ )([41]) ومرّة أخرى تؤكِّد بلقيس أ نّها حكيمة متريّثة متلبّثة لا تتعجّل الإجابة فلم تجزم بأنّ العرش عرشها ، ولم تقل إنّه غيره ، بل قالت (كَأَ نَّهُ هُوَ ) .
ولمّا دعاها سليمان (عليه السلام) إلى عبادة الله عزّ وجلّ أذعنت قائلة (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي )([42]) بعبادتي الشمس (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ للهِِ رَبِّ ا لْعَالَمِينَ )([43]) .
ولعلّ في موقفها باصطحاب قومها ليسلموا معها دليلاً على أ نّها آمنت أعمق الإيمان أنّ عبادة الله سبحانه وتعالى فوق كلّ عبادة ، وما الشمس إلاّ مخلوق من مخلوقاته ، كسائر الكائنات الأخرى . كما يدلّل على أنّ قدرتها على قيادة قومها في المنعطفات التأريخيّة عالية جدّاً ، وأنّ استجابتهم لقراراتها ـ ثقةً منهم بحكمتها ـ عالية أيضاً .
ولذا فإنّ ما يلفت النظر في هذه النجمة النسوية اللاّمعة امتيازها بعقل يفوق في تفكيره وتدبيره عقول الكثير من الرجال ، الأمر الذي يبطل الزعم الذكوري أنّ المرأة أقلّ عقلاً من الرجل . ومع أنّ العلم أثبت أنْ لا صحّة لهذه المقولة ، فإنّ ما يمكن أن نستفيده للمستقبل أنّ البيئة التي ينشأ فيها الانسان ـ ذكراً كان أم اُنثى ـ تلعب دوراً كبيراً في بناء ذهنيته ونفسيته وشخصيته ، فلو عاشت أيّة فتاة في أجواء تدعو إلى احترام التفكير العقلاني السليم ، وتؤمن بالحوار الهادئ الهادف الذي ينشد الحقيقة لا الجدال ، وترفض القمع والاضطهاد والاستبداد ، وتشجب النظرة الدونية للمرأة ، وتلقّت تربية على مستوى عال تتيح لها أن تتعلّم وأن تجرِّب وأن تبدع ، وأن تأخذ موقعها الانسانيّ اللاّئق ، لشهدنا ربّات عقول راجحة كثيرات ، كما نشهد فعلاً في هذا الميدان من ميادين العلم أو في هذا الحقل من حقول المعرفة ما يؤكِّد هذه النظرة .
كما أنّ الشاب أو الرجل الذي يعيش في بيئة متخلِّفة لا تقيم للعقل وزناً ، ولا تقدِّر قيمة الفكر الناضج والمبدع والمجدّد ، ولا تحرّض على خوض التجارب الخطيرة والمشاريع الانمائية المتطوّرة ، سوف يكون خامل العقل ضعيف الرأي هزيل التفكير .
( 18 )
فالمشكلة ليست في إمرأة أو في رجل ، بل في بيئة تحكم على هذا أو هذه بالتخلّف وبالجمود ، أو بالوعي الراسخ والعقل الراجح والنظر المستنير .
سادساً : أُمّ المؤمنين (خديجة بنت خويلد) زوج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
الإيمان الواعي المستقل :
خديجة (رض) أوّل نسـاء هذه الأمّة إيماناً وتصديقاً بنبوّة النبيّ الأعظم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) .
وقد يقول قائل لأ نّها زوجته ، وليس في ذلك ما يعاب ، ولكن ذلك ليس قاعدة على طول الخطّ ، فزوجة نوح وزوجة لوط كانتا تحت عبدين صالحين فخانتاهما ، فليس من الضروري أن تكون الزوجة تبعاً لزوجها فيما تعتقد ، فهي حرّة التفكير والاعتقاد كما هو حرّ التفكير والاعتقاد .
إنّها إذاً طهارة العقل والقلب والروح والفطرة تفتّحت كلّها لاستقبال أنوار الاسلام الأولى .. إذ كان يمكن أن تتنكّر خديجة (رض) لما جاء به النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) لأ نّها عاشت الجاهلية الأولى ، كما كان يمكن أن تخاطبه بما خاطبه به المشركون : سفّهت ديننا ودين آبائنا وأجدادنا ، لكنّها لم تغلق نوافذ العقل والقلب والنفس والجوارح ازاء تباشير النور الذي ينير العقل فيطرد منه كلّ خرافة وكلّ أسطورة وكلّ تخلّف ، وينير القلب فيبعد عنه كلّ حقد وكلّ عداوة وكلّ بغضاء وكلّ ميل إلى فحشاء أو منكر ، وينير النفس والجوارح فينطلقان في الحياة بأفق أرحب ونهج أطيب وعود أصلب .
اُمّنا خديجة (رض) كانت حرّة التفكير لم يمارس معها النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)أيّة ضغوط حتّى تسلم لربّ العالمين ، بل صدّقته منذ اللحظة الأولى لأ نّها على خلاف قريش التي وجدت آباءها على ملّة وإنّها على آثارهم مقتـدون ، والتي كانت على مدى أربعين عاماً تصف محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم)بالصادق الأمين ، وإذا بها بين عشـيّة وضُحاها تنقلب على أعقابها فتصفه بالكاذب والساحر والشاعر والكاهن والمجنون .
وتساءلت خديجة (رض) في صفاء وهدوء عقل : إنّ صادقاً امتاز واتّسم بالصدق حتّى اقترن به كظلّه ، كيف يكذب في لحظة ؟!
ولم تشأ أن ترتكب الخطأ الجسيم الذي ارتكبوه ، فكانت صدِّيقة هذه الأمّة . وهذا هو أحد أسباب إكبارنا لهذا النموذج النسائي الأعلى الذي لا يستسلم لألفة الآباء ولا يكون إمّعة يقول أنا من الناس وأنا كواحد من الناس ، وإنّما يفكِّر بعقل حرّ بمعزل عن كلّ التأثيرات الجانبية .
( 19 )
وهذا هو أيضاً ـ إلى جانب أسباب أخرى كثيرة ـ هو سبب مودّة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لها واحترامها والمبالغة في تعظيمها ، حتّى أ نّه كان يشاورها في اُموره ، ولم لا وهي صاحبة العقل الحرّ والتفكير الحرّ والقرار الحرّ .
خطبة المرأة للرجل :
إنّ من حقّ الفـتاة أن تختار الشاب أو الرجل الذي يناسـبها ويكافئها خلقاً وديناً ومكانة . وإذا كان حياء المرأة يمنعها من أن تصارح الرجل بذلك ، فإنّ السبيل أمام ذلك ليست مغلقة . فلقد عرضت بعض النسوة الزواج على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كما كنّ يأتينه ويقلن له : زوّجني يا رسول الله . وقد رفض الاسلام إكراه الفتاة على الزواج ممّن لا ترغب واعتبر العقد في هذه الحالة باطلاً .
غير أنّ هذه النظرة الراقية التي جسّدها المسلمون في بدايات عهدهم بالاسلام تراجعت كثيراً حتّى صار الناس ينظرون لمن يعرض ابنته للزواج نظرة فيها ريبة .
لقد خبرت خديجة (رض) صدق النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمانته من خلال تجربة ميدانية حيث عمل معها في الحقل التجاريّ ، فرأت أ نّه خير من يصلح لها زوجاً ، وقد تقدّم لها أشراف قريش فرفضتهم . وحدّثت أختاً لها أو صديقتها بالزواج منه ، فذهبت هذه إليه فأجابها بالقبول ، ولهذا يمكن القول إنّ خديجة هي التي خطبت النبيّ محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقد مرّ معنا كيف خطبت ابنةُ شعيب موسى (عليه السلام) .
نِعمَ النصـير :
من الصعوبة بمكان أن يستشعر الداعية إلى الله نبيّاً كان أم وصيّاً أو عاملاً في سبيل الله أ نّه يقف متوحداً بين قوم يُعرضون عنه ويرفضون دعوته ويستكبرون استكباراً ، وهو الذي جاءهم بالصدق وصدّق به ، وبخير الدّنيا والآخرة ، وأ نّه لا يسأل إزاء ذلك أجراً .
ومنذ البدء وقفت أمّ المؤمنين خديجة (رض) موقفاً مشرّفاً في الدفاع عن رسالة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي التخفيف من الآلام التي كان يعانيها جرّاء عنت قومه وجهلهم وتطاولهم عليه ، حيث قابلت ذلك كلّه بمزيد من الدعم والمناصرة والصبر والاحتساب .
وربّما لا يكون القول في أنّ الاسلام انتصر بأموال خديجة وحدها دقيقاً ، فقد تحمّلت المحن وعانت أشدّ الآلام بسبب مقاطعة النسوة القرشيّات والحصار المفروض على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين برسالته، فكانت مواقفها المساندة والمعاضدة لخطى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، تُمثِّل المأوى الأمين والملجأ الحصين والصدر الحنون والساعد المعين في وقت عزّ فيه الناصر وانعدم المعين .
( 20 )
إنّ دور المرأة في امتصاص آلام زوجها والتخفيف من وطأة الغربة التي يعيشها في قومه بما تزجيه من كلمات التصبير والتشجيع والتأييد يفعل فعل السحر في نفس الرجل العامل .. وإذا صحّ أنّ وراء كلّ عظيم امرأة ، فإنّ خديجة (رض) تكون قد أسدت لاسلامها ـ من خلال ما هيأته من أجواء نفسية تفيض بالحنان وتعبق بالحبّ وتطفح بالأمل ـ أكثر ممّا يسديه المال على أهمّيته كعصب للدعوة الإسلامية ، فخديجـة (رض) ربّما تفتخر بأ نّها أوّل من أسلم، وأ نّها السبّاقة إلى تصديق النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والناصرة له في الظرف الخانق العصيب ، أكثر من افتخارها ببذلها مالها ، وإن كان الجهاد بالمال أحد جهادين عظيمين .
لقد ثبت من خلال سير العظماء الذين صنعوا التأريخ وأثّروا فيه أعمق الآثار أنّ المرأة في حياة كل منهم ـ سواء كانت اُمّاً أو زوجة أو اُختاً أو بنتاً ـ لها القدح المعلّى في إبداع وعظمة واشتهار العظيم .
والميدان أمام المرأة المسلمة مفتوح في أن تُجرِّب ذلك مع الأب والأخ وشريك الحياة ، لترى أثره الكبير والفعّال والمدهش .
شهادة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) :
في ردِّه على قول زوجته عائشة ، حينما رأته يكثر من ذكر خديجة (رض) : هل كانت إلاّ عجوزاً أبدلك الله خيراً منها . قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : « لا والله ما أبدلني الله خيراً منها ، آمنت بي إذ كفر الناس ، وصدّقتني إذ كذّبني الناس ، وواسـتني في مالها إذ حرمني الناس ، ورزقني الله منها أولاداً إذ حرمني أولاد النِّساء » .
ففي هذه الشهادة الرسولية أربع خصال لخديجة (رض) :
1 ـ السبق إلى الإيمان في جوٍّ مشرك كلّه .
2 ـ التصديق في جوٍّ مكذّب كلّه .
3 ـ المواساة في جوٍّ حرمانٌ كلّه .
4 ـ الذرِّيّة .
فالسابق إلى الإيمان ذو مرتبة أعلى ودرجة أفضل من الذين آمنوا متأخرين (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولئِكَ المُقَرَّبُونَ )([44]) . ومن هنا أيضاً نفهم سرّ التفضيل في قوله تعالى : (لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ا لْفَـتْحِ وَقَاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَـةً مِنَ ا لَّذِينَ أَنفَقُـوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا )([45]) .
( 21 )
والمصدِّق للرسالة عن اطمئنان عال ويقين كبير في محيط غارق بالتكذيب ، ليس متفرّداً في موقفه فحسب ، بل يمتلك من الشجاعة الفائقة بحيث لا يكترث للعنة المكذّبين أو سخط الساخطين أو جور الجائرين ولمقاطعة المقاطعين .
والمواسي في ظروف الحرمان والمقاطعة والحرب النفسية والكلامية لا يمارس دور طبيب النفس فقط ، بل هو من رباطة الجأش وسعة الصدر والقدرة على التحمّـل بحيث لا تهتز له قصبة ولا يدع غيره يهتز .
وأمّا الذرِّيّة الصالحة التي بعضها من بعض والتي جاءت من ابنتها فاطمة (عليها السلام) وفي نسل فاطمة فهي ممّا خصّ الله به خديجة دون غيرها من نساء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد ملأوا الأرض خيراً ورحمةً وقسطاً وعدلاً .
ولسنا في معرض الاشادة بهذه المواصفات في شخص خديجة فقط ، فهي خصال حميدة ومجيدة وفريدة نشيد بها أينما وجدت وفي كلّ فتاة أو امرأة مسلمة وقفت من إيمان زوجها وجهاده وعطائه في سبيل نصرة دين الله، مؤيدةً وناصرة ومتظافرة ومتواصية بالحقّ ومتواصية بالصّبر .
سابعاً : فاطمة الزّهراء (عليها السلام) (سيِّدة نساء العالمين)
أُمّ أبيها :
كانت ثمرة زواج العظيمين نبيّنا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمّ المؤمنين خديجة (رض) مولودة عظيمة . وإذا كانت الآيات الكريمة قد حثّت على زواج المؤمن بالمؤمنة والمؤمنة بالمؤمن ، فلكي يكون الناتج المبارك ذرِّيّة صالحة مؤمنة . وما أحوج الأمّة اليوم وفي كلّ يوم إلى زواج واقتران كهذا وإلى ذرِّيّة كهذه .
نشأت في بيت النبوّة ، ومنذ نعومة أظفارها ساهمت في بناء هذا الصرح النبويّ الشامخ الذي سيبقى يطاول الدهور .
ورعت حامل الرِّسالة أباها وهي بعد طفلة صغيرة لتعوّضه على حنانين : حنان الأم الرؤوم وحنان الزوجة المخلصة ، وكم هي حافلة بالمعاني الانسانية الخصبة والرحبة كلمته (صلى الله عليه وآله وسلم) في حقّها « أمّ أبيها » .
لقد اتّسع صدر الصغيرة فاطمة (عليها السلام) حتّى بات كصدر اُمّـه آمنة (رض) أوّل صدر ضمّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفاضت أحضانها بالرحمة حتّى احتوت نبيّ الرحمة . ولنا أن نتصوّر حجم الزخم العاطفي الذي يمكن أن تضخّه الفـتاة المؤمنة الصالحة في نفس أمّها وأبيها وإخوتها وأخواتها .
( 22 )
إنّها يمكن أن تكون رافداً ثرّاً من روافد الحبّ والسعادة في وسط الأسرة، وواحة من واحات الانس والرّحمة في حال رحيل أمّها ، وبهذا تكون قد اقتدت عملياً بالسيِّدة الزهراء (عليها السلام) في رعايتها لأبيها أو لأسرتها .
إنّ حبّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لفاطمة (عليها السلام) على أ نّه حبّ خاصّ وفريد لبنت خاصّة وفريدة في إيمانها وعصمتها وجهادها وحسن تبعّلها ، إلاّ أ نّه يرسم لنا الطريق الأمثل في التعامل الأبويّ مع البنات ، تأسِّياً به (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وتعامل البنات مع آبائهنّ وأسرهنّ وذويهنّ تأسِّياً بها (عليها السلام) .
المسؤوليّة فردية :
حبّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لبضعته الطاهرة (عليها السلام) عظيم ، لكنّ ذلك لم يمنعه من أن يؤكِّد للمسلمين من خلالها أنّ موقع الأب الرسالي لا يغني عن مسؤولية ابنته أمام الرسالة .
يقـول (صلى الله عليه وآله وسلم) مخاطباً عشـيرته : « يا بني هاشم ! اعملوا على مكانتكم فإنّي لا أغني عنكم من الله شيئاً ، يا بني عبد مناف ! لا أغني عنكم من الله شيئاً ، يا عباس بن عبدالمطّلب ! لا أغني عنك من الله شيئاً ، يا صفيّة بنت عبدالمطّلب ! لا أغني عنك من الله شيئاً ، يا فاطمة بنت محمّد ! لا أغني عنك من الله شيئاً » .
إنّه يطالبهم جميعاً ـ بمن فيهم أحبّ الناس إلى قلبه فاطمة ـ أن يعملوا على مكانتهم ، وأن لا يركنوا إلى سيِّد الأنبياء فطاعته لا تغني عن طاعتهم ، فالجميع مسؤولون أمام الله سبحانه وتعالى .
ومن هذا نستوحي أنّ ابنة المؤمن ليست بالضرورة مؤمنـة ما لم تختطّ طريق الإيمان لنفسها، وأنّ ابنة المجاهد ليست بالتبعية مجاهدة ما لم تترسّم هذا السبيل. ولقد عرفنا من خلال سيرة الزّهراء (عليها السلام) كيف عملت على مكانتها فآمنت أفضل الإيمان وأكمله ، وجاهدت أفضل الجهاد وأصدقه، ولم تتكل على إيمان أبيها وجهاده في سبيل الله لتقعد ـ كما يفعل البعض ـ عن اكتساب المكارم وحيازة الفضائل وبلوغ المقام المحمود .
المثل الأعلى للزوجة الصالحة :
تتزوّج فاطمة (عليها السلام) من عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) بأبسط وأزهد صداق ( المهر ) لتكون المثل العملي التجسيدي لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)« خير نساء اُمّتي أقلّهنّ مهوراً » .
وربّما تقول قائلة إنّه لم تكن هناك في ذلك العهد هذه القصور الفخمة والأثاث الضخم والسيّارات وأدوات الزينـة وغير ذلك ممّا أصبح جزءاً لا يتجزّأ من مهر الفتاة .
( 23 )
لكنّنا نقرأ في صفحات التأريخ كيف أن زيجات تمّت بمهور عالية جدّاً تصل إلى أحمال بعير فضّة وذهباً وأكثر من ذلك .
فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يريد أن يقول من خلال دعوته إلى عدم المبالغة في المهور أنّ المرأة ليست سلعة ، وأنّ المهر ليس ثمناً لتلك السلعة ، إنّه مكرمة من الله للمرأة وحق من حقوقها ، غير أنّ كرامتها الكبرى فيما حظيت به من زوج مؤمن صالح طيب القلب والمعشر لا تعادله أموال الدّنيا كلّها ، مثلما حظي هو بمؤمنة لو جاء بملء الأرض ذهباً ليكون ثمناً لها لرجح إيمانها وصلاحها وحسن تبعّلها وتدبيرها عليه .
لم يكن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وابنته فاطمة (عليها السلام) ولا المسلمون الذين أخذوا الدرس عنهما يلتفتون ـ كما نفعل اليوم ـ ليجروا مقارنة بين مهر هذه ومهر تلك ليثقلوا كاهل العريس بنفقات وطلبات لا طاقة له بها ، بل اكتفوا بالصداق البسيط والجهاز البسيط والتفتوا إلى ما هو خير وأبقى .
وقد تكون مُتطلّبات الحياة اليوم غيرها بالأمس ، لكنّ الاكتفاء بالضروريّات والأساسيّات التي لا غنى عنها يمكن أن يمثِّل بنحو وبآخر اقتداءً بسيِّدة النِّساء (عليها السلام) .
المسؤوليّة البيتـيّة :
للمرأة في بيتها مسؤوليات وللرجل في بيته مسؤوليات ، والموضوع ليس محل مقارنة أو مفاضلة أو ترجيح لأهمّية مسؤولية دون مسؤولية، فكلّ المسؤوليات البيتية سواء التي يقوم بها الرجل أو التي تقوم بها المرأة مهمّة وكلّ منها يكمل الآخر، أي أنّ المسؤولية الأسرية أو البيتية تضامنية .
ولقد حلّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الاشكالية في مفتتح عهد الزواج بـين عليّ (عليه السلام) وفاطمـة (عليها السلام) بأبسـط الحلّ وأحكمـه ، حيث وزّع المسؤوليات بين الزوجين الكريمين ، فكان كلّ ما قَبْل عتبة الباب هو من مسؤولية الزوج ، وهو هنا عليّ (عليه السلام) ، أي أنّ كلّ شأن من الشؤون البيتية المتعلِّقة بخارج البيـت ، من مستلزمات ومشتريات وخدمات أخرى يقع على عاتق الزوج .
وكان كلّ بعد العتبة من مسؤولية الزوجة ، وهي هنا فاطمة (عليها السلام) ، أي أنّ كلّ ما يتعلّق بشؤون الأسرة في داخل البيت هو في عهدة الزوجة . وبذلك يكون قد نظّم المسؤوليات الزوجية تنظيماً مناسباً وحكيماً ، إلاّ أنّ ذلك لا يمنع أن يساهم الزوج في خدمات البيت تخفيفاً عن كاهل الزوجة ، كما كان عليّ (عليه السلام) يفعل ، ولا يتعارض مع قيام الزوجة بتلبية طلبات البيت من الخارج في حال انشغال الزوج أو سفره أو كثرة التكاليف التي في ذمّته .
( 24 )
ولا يعني هذا التقسيم أنّ أعمال البيت من واجبات المرأة ، إذ لم يوجِب الاسلام على الزوجة هذه الأعمال ، وإنّما تقوم بها الزوجة المسلمة ، تطوّعاً وتقرّباً إلى الله تعالى بحُسن التبعّل ، ومشاركة منها في إدارة الأسرة . فالمرأة هي مصدر الدفء والحنان في العائلة ، ولها دور حسّاس وهام ومقدّس في بناء الأسرة وتربية الأبناء .
ولا يعني هذا التقسيم أيضاً منع المرأة من العمل خارج الأسرة أو المشاركة في النشاط الاجتماعي والسياسي، التي يتحمّل فيها الرجل والمرأة على السواء مسؤولية اصلاحهورعايته، قال تعالى: (والمُؤْمِنُونَوالمُؤْمِناتِ بَعْضُهُم أولياءُ بَعْض يأمُرُونَ بالمَعْروفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَر ... )([46]) .
وإنّما يشير هذا التقسيم في بعض أبعاده إلى أنّ الزوجة في الاسلام ، مؤمّنة اقتصادياً، إذ تقع على الرجل مسؤولية كفالتها وتأمين معيشتها ، ممّا يحفظ كرامتها ويكفيها مؤونة الحياة ، كما إنّ المرأة لها أدوار ومهام حياتيه لا يمكن أن يؤدِّيها الرجل .
تربية الأبنـاء :
إنّ أوّل ما تقع عليه عين الصغير المميّز فيما يعدّ قدوة له ، قد تمتد حتّى آخر حياته ، هي سيرة اُمّه وأبيه ، وكلّما قدّم الأبوان من نفسيهما المثال الصالح والنموذج الذي يحتذى ، كان ذلك أبلغ في التربية وأعمق تأثيراً في النفس .
فالحسنان (الحسن والحسين (عليهما السلام) ) نشآ وترعرعا في البيت العلويّ الفاطميّ الذي قدّم لهما من الزاد التربوي الزكيّ ما بقيت مآثره زاداً للأجيال كلّها .
فلقد كانت الزّهراء (عليها السلام) ترسلهما ـ في عهد جدّهما النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ إلى المسجد ليستشقا أجواء الإيمان منذ نعـومة أظفارهما ، وكانت تسألهما عمّا أخذاه من جدّهما ـ فيما كان يعلِّمه للمسلمين ـ فيرويان لها ذلك بالحرف الواحد .
ومن هنا تأتي أهمّية اصطحاب الأطفال والصبيان إلى المساجد ودور العـبادة الاُخرى كيما ينشأ الطفل الصغير وهو يتعشّق أجواء الإيمان والطاعة والموعظة والعبادة .
وكانت (عليها السلام) إذا قرأت القرآن أجلستهما في حجرها وراحت تتلو منه ما تيسّر لتتشرّب أسماعهما لذيذ كلام الله وعميق وحيه ، ذلك لأنّ انطباع هذا في ذاكرة الصغار لا يمحى ، بل قد يكون مرحلة تأسيسية لعلاقة أوثق مع كتاب الله من خلال حفظه أو تجويده أو تفسيره .
( 25 )
وحينما كانت تصلِّي صلاة اللّيل ويراها ابنها الحسن (عليه السلام) تدعو لجيرانها يسألها : ولم لا تدعين لنفسك يا اُمّاه ؟ تجيبه : «يا بنيّ ! الجار ثمّ الدّار» . فهل هناك درس أو لقطة حيّة أثبت في وجدان ووعي هذا الطفل من هذه ؟ إنّه سيكبر وتكبر معه خصلة إيثار الجار على النفس ، وهو ما يجدر بكلّ اُمّ أو أب أن يفعله مع أبنائه وبناته وإلاّ أصبحوا أنانيين .
ولذا كان رأي علماء التربية أنّ التربية غير المباشرة وهي التربية السلوكية أبلغ في التاثير من التربية المباشرة المقصودة وهي التربية عن طريق النصح والموعظة ، فلكلّ فضل ولكن فضل الأولى على الثانية أكبر .
الإخلاص التـام :
ويوم يمرض الحسن والحسين (عليهما السلام) فينذر عليّ وفاطمة (عليهما السلام) أن يصوما لله ثلاثة أيّام شكراً إن برئا . ويلبسهما الله تعالى لباس العافية فيفيان بالنذر ، وإذا بطارق مسكين في اليوم الأوّل يسألهما فيدفعان له
بافطارهما ، وتتكرّر العملية في اليومين التاليين مع يتيم وأسير فينزل الله فيهم قرآناً (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُـونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً )([47]) .
إنّ هذا البيت الإسلامي الرائد لا يقدّم الطعام فقط لوجه الله بل كلّ شيء ، فما من عمل صغير أو كبير تقوم به هذه الأسرة إلاّ وكان الله قبله ومعه وبعده .
ووجه الله هنا هو كل عمل صالح يتقرّب به العبد إلى الله سبحانه وتعالى ولا يخالط نيّته أي شيء غير ذلك ، ولنا أن نتصوّر كيف سينشأ الطفل في بيت شعاره الإخلاص لله وغايته رضا الله ؟!
عدم المهادنة في الحقّ :
لم تقف الزّهراء (عليها السلام) إزاء ما حدث بعد رحيل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)من أحداث أدّت إلى إقصاء أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) عن موقعه القيادي، وهو وصيّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وحامل لوائه ، لم تقف موقف الصّامت المُتفرِّج ، أو الساكت عن الأمر ، لم تكن المسألة عندها مسألة حقّ لزوج، بل هي مسألة تجاوز على حق، وهي كمسلمة سواء كانت زوجاً لعليّ أو لم تكن ، مطالبة بالدفاع عن هذا الحقّ .. ولذا راحت تطوف على نساء المهاجرين والأنصار ، لتوضِّح لهنّ أين الخلل وأين الخطأ؟ وأين الصواب وأين الحلّ؟
( 26 )
ولم تكتف بذلك بل ألقت في مسجد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) خطبة عصماء، ذكرت فيها مرامي وأهداف التشريع الإسلامي ، وكيف كانت الاُمّة قبل البعثة ؟ وكيف أصبحت بعدها ؟ وكيف تنكّرت لجميل أبيها وجهوده وانجازاته ؟!
والزّهراء فاطمة (عليها السلام) تخاطبنا ـ نساء ورجالاً ـ أنّ الحقّ أحقّ أن يُتبع فلا مهادنة ولا مجاملة ولا مساومة في الحقّ رضي الناس أم سخطوا ، وسواء استُرجع الحق أو بقي بعيداً عن أهله .
إنّها نموذج المحامية البارعة في تقديم الدفاع من خلال وحي الله وسنّة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
ثامناً : زينب الكُبرى (عليها السلام) بطلة كربلاء
الصلابة المشهودة :
في هذا البيت الذي رسـمنا قبل قليل بعضاً من ملامحـه ، نشأت زينب الكُبرى (عليها السلام) لتعيش الصلابة من خلال تجربتين :
تجربة الإخلاص لله في صورة الاُم ـ فاطمة الزّهراء ـ وهي سيِّدة النِّساء ، وصورة الأب ـ عليّ بن أبي طالب ـ الفتى الذي لا فتوّة في الإسلام كفتوّته، وصورة الأخوين ـ الحسن والحسين ـ اللّذين يدرجان في مراقي الطاعة .
وتجربة المصائب التي تتالت عليها واحدة إثر اُخرى ليقوى عودها ويشتدّ في مواجهة المصيبة العظمى ..
رحل جدّها ولا يوم كيومه ، وماتت اُمّها فانكسر ظهر أبيها، وقُتل أبوها في المحراب فانهدّ ركن الهدى ، ودسّ السّمّ لأخيها الحسن (عليه السلام)فلفظ كبده .
ويأتي المصاب الجلل حيث يُقتَل دفاعاً عن رسالة الله ومبادئ الاسلام الحرّة الأبيّة : أخوها الحسين (عليه السلام) وأخوها العبّاس (عليه السلام)وأبناء إخوتها وإبناها وصحب أخيها الأبرار الأخيار ، فلم يبق من رجالها سوى ابن أخيها ، وذلك في يوم عاشوراء ، ولا يوم كذلك اليوم الذي قتل فيه جيش يزيد ، الامام الحسين (عليه السلام) سيِّد شباب أهل الجنّة بمأساة لم يشهد لها التاريخ نظيراً .
كم تحتاج المرأة من الصبر والجلد والمقاومة والقدرة على التحمّل حتّى يقوى كاهلها على حمل هذه الأعباء التي تنوء بها كواهل الرجال ؟
لقد تحمّلت زينب ابنة عليّ (عليه السلام) فتى الاسلام الأوّل وابنة فاطمة (عليها السلام) سيِّدة النِّساء ذلك كلّه بصبر جميل واحتساب منقطع النظير ، ولعلّ السبب في ذلك يرجع إلى التنشئة الأولى التي تلقّتها زينب (عليها السلام)في ذلك البيت الذي مرّ وصفه .
( 27 )
ولذا فإنّ تربية الأبناء على تحمّل الشدائد منذ الصغر سيمنحهم قوّة مدخرة على تحمّل المصائب الأشدّ في الكبر ، ولذا فإنّ اعتماد مبدأ «الضربة التي لا تكسر الظهر تقوّيه» كفيل بأن يخرج الصّبي أو الصّبيّة من حالة الانهيار أمام أيّة مشكلة إلى حالة الصبر والمواجهة لأيّة قضيّة أو أزمة .
المساهمة في حمل العبء الثقيل :
في قبال صورة الحسين بن عليّ (عليه السلام) بطل كربلاء ، وقائد الثورة الإسلامية ضدّ الظلم والطغيان ، وما سجّلته واقعة كربلاء من مشاهد الإباء والشجاعة والتضحية ، ترتسم صورة اُخرى لا تقلّ هيبة وجلالاً عن تلك الصورة .
إنّها صورة زينب (عليها السلام) بطلة كربلاء التي واكبت حركة الحسين (عليه السلام) خطوة بخطوة ، وكانت مثله صبراً وتحدِّياً وثقة بالله وشجاعة في مواجهة المواقف الصعبة .
إنّها بحقّ شريكة الحسين (عليه السلام) في نهضته الإصلاحية .
فجأة تجد زينب (عليها السلام) نفسها وحيدة في ساحة امتلأت بجثث الشُّهداء من أهل بيتها ، وترسل نظرة اُخرى فترى النِّساء الأرامل والأطفال اليتامى ولا من معيل . أيّة مسؤوليّة ثقيلة ؟
فكيف تصرّفت ؟
ـ أدخلت السكينة على قلوب الأطفال والنِّساء وهدّأت من روعهم ، وهذا لا يكون إلاّ إذا كان مانح السكينة يعيش السكينة هو نفسه ، ففاقدُ الشيء لا يعطيه .
ـ اتّجهـت في مشهد روحي غارق في العرفـان إلى جسد أخيها الحسين ، سبط الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، المبضّع والمضرّج لتضع يديها تحته وترفع طرفها إلى السّماء ، قائلة : « اللّهمّ تقبّل منّا هذا القربان » فهي تقدِّم أغلى وأعزّ هداياها إلى ساحة الرضوان الإلهيّ ، وهذا أيضاً لا يكون إلاّ من نفس راضية بقضاء الله وقدره ، ومطمئنّة إلى جزاء الله الأوفى .
ـ لم تترك عبادتها ونافلتها في ليلة الحادي عشر من المحرّم رغم ما كانت تعانيه من مصائب كلّ واحدة منهنّ تهدّ الشامخات الرواسي ، فبأيّ قلب ستواجه الله وقد فقدت كلّ عزيز ؟!
يقول ابن أخيها عليّ بن الحسين (عليه السلام) ـ الوحيد الباقي من الرِّجال معها ـ : « ما تركت عمّتي تهجّدها لله تعالى طوال دهرها حتّى ليلة الحادي عشر من المحرّم » . ونقلت عنها ابنة أخيها فاطمة « وأمّا عمّتي زينب فإنّها لم تزل قائمة في تلك اللّيلة في محرابها تستغيث إلى ربّها ، فما سكنت لها عين ولا هدأت لها رنّة » .
إنّ الإنسان المؤمن المنكوب لا يجد ملجأ ولا مفزعاً يتوجّه إليه غير الله اللّطيف الخبير ، ولذا فإنّ صلاته تكون سكناً له ، وأنّ تضرّعه يصبح اُنساً لقلبه المفجوع ، وانّ تهجّده يتحوّل إلى راحة لروحه المثقلة .
( 28 )
بهذه الأسلحة واجهت زينب (عليها السلام) محنة كربلاء .
وبها أيضاً نستطيع ، نساء ورجالاً ، أن نواجه ما يمرّ بنا من محن .
القـويّة في الله :
إنّ علاقة زينب (عليها السلام) بالله تبارك وتعالى تعطينا صورة واضحة عن مدى تأثير تلك العلاقة في روحية السيِّدة زينب (عليها السلام) التي تنمّرت في ذات الله ، ولم تأخذها فيه لومة لائم على طول طريق السبي من كربلاء إلى الكوفة إلى الشّام .
ينطلق لسانها ليقرّع أهالي الكوفة الذين ساهموا في قتل أخيها الحسين (عليه السلام) وإذا هم يبكون! فتقول رافضة دموعهم المنافقة: أتبكون ؟ فلا رقأت الدمعة ولا هدأت الرّنّة .
ويسألها الطاغية عبيدالله بن زياد (والي يزيد على الكوفة) : كيف رأيتِ صنع الله بأخيك ؟ فتقول بشموخ المنتصِر : «ما رأيتُ إلاّ جميلا . هؤلاء قومٌ كتبَ الله عليهم القتل ، فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم ، فتُحاجّ وتُخاصَم ، فانظر لِمَن الفَلَج يومئذ ، ثكلتكَ اُمّك يا ابن مرجانة » .
وفي قصر يزيد بن معاوية تريش سهامها الحادّة إلى كبده « فوالله ما فريت إلاّ جلدك ، ولا حززت إلاّ لحمك ، فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك ، فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا ، ولا يرحض عنك عارها ، وهل رأيك إلاّ فند وأيّامك إلاّ عدد وجمعك إلاّ بدد يوم ينادي المنادي : ألا لعنة الله على الظالمين » .
الحملة الإعلاميّـة :
إن فات زينب (عليها السلام) الجهاد بالسّيف ، وقد وضع الجهاد عن النِّساء بهذا السلاح ، لم يفتها الجهـاد بما هو أمضى وأشدّ قوّة . إنّها أفضل الجهاد كلمة الحقّ عند السلطان الجائر .
فعملت على كشف زيف الشعارات الأمويّة الضالّة المضلّلة .
وفضحت الجرائم البشعة التي ارتكبت في كربلاء .
ونقلت لمن لم يشهدوا المعركة صورة حيّة عن بطولاتها وتضحياتها .
وأنّبت المتخلِّفين عن نصرة الحق ، والمتقاعسين في الأخذ بالثأر .
حتّى ضاقَ والي المدينة بها ذرعاً فنفاها بعيداً عن المدينة ، ليخرس صوت الحقّ ، لكنّ البطلة زينب (عليها السلام) مارست دورها الرِّسالي في منفاها حتّى أتاها اليقين .
من هذه السيرة العاصفة التي كانت تتنقّل فيها زينب (عليها السلام) من مصيبة إلى مصيبة ، يتأكّد لنا أنّ هناك دائماً دوراً جهادياً للمرأة ، إن لم يكن في خنادق القتال ففي الخطوط الاُخرى ، وهو دور مكمّل ولا يقلّ أهمّية عن دور المجاهدين في الخطوط الأماميّة ، فهو دور مطلوب قبل وأثناء وبعد انتهاء المعركة .
( 29 )
تاسعاً : أُمّ سليم (بنت ملحان)
قوّة الإيمـان :
هذه إمرأة مؤمنـة ، لا هي أمّ نبيّ ، ولا هي زوج نبيّ ، إنّما هي خرّيجة مدرسة الإيمان تلقّته على يدي القرآن وعلى يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فكانت مثلاً في عمق وعيها الإيمانيّ .
أسلمت وبايعت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وشهدت معه (اُحداً) و (يوم حنين) وكانت تسـقي العطشى وتداوي الجرحى ، وتبثّ الحماسـة في نفوس المجاهـدين ، وشـوهدت وهي تحمل في (حنين) خنجراً حزمته على وسطها ، ولمّا سألها النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عنه ، قالت : إن دنا أحد المشركين مني بقرت بطنه .
وحينما يبلغ ابنها أنس مبلغ الفتيان تأتي به إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، لتضعه في خدمته ولينهل من تعاليمـه فيرحِّب به النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ويقرّ عينها بما طلبت ، ممّا نستفيد منه في أن نختار لأبنائنا دائماً المكان المناسب للتربية أو للعمل .
ولمّا تقدّم (أبو طلحة) وكان ثريّاً مشركاً لخطبتها رفضته رغم ما قدّم لها من مهر غال ، قالت : لا ينبغي أن أتزوّج مشركاً ، فهل لك أن تشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأزوِّجك نفسي ولا أريد منك صداقاً غيره .
يقول ابنها أنس : ما سمعت بامرأة قطّ كانت أكرم مهراً من أمّ سليم كان مهرها الإسلام !
عاشت مع أبي طلحة حياة زوجيّة هانئة ، فكانت مثال الزوجة الصالحة التي ترعى حقوق الزوجية خير رعاية ، ومثال الاُم الصالحة والمربّية الفاضـلة ، ولقد رزقها الله من (أبي طلحة) طفلاً أسـمياه (أبو عمير) وقد مرض ومات في مرضه وتلقّت (اُمّ سليم) موته بالصّبر والسلوان وبنفس راضية بقضاء الله وقدره . فقامت وغسّلت الطفل وكفّنته وغطّت عليه ثوباً في فراشـه ، وهي تردد : ( إنّا لله وإنّا إليه راجعون ) وطلبت ممّن حولها أن لا يخبروا أبا طلحة .
عاد الزوج من عملـه ، وكانت قد جففت دموعها وتصنّعت لاستقباله بابتسامتها المعتادة ، وجاءته بعشاء ، فسألها ليطمئن على صحّة ولده : ما فعل أبو عمير ؟ فقالت : هو أسكن ما يكون ! فظنّ الزوج أ نّه شُـفي . وكانت اُمّ سـليم قد تطيّبت وارتدت أجمل ثيابها ، وتزيّنت واقتربت منه ، فأصاب منها ما يصيب الرجل من أهله ، فنام سـعيداً راضياً شاكراً لنعمة الله على شفاء ولده وعلى حبّ زوجته ورعايتها له .
في آخر اللّيل ، وقد عاود الأب السـؤال عن ولده ، تقول له (اُمّ سليم) : يا أبا طلحة ! أرأيت لو أنّ قوماً أعاروا عاريتهم (الأمانة) أهل بيت فطلبوا عاريتهم ، فهل لهم أن يمنعوها عنهم ؟ قال : لا . قالت : فما تقول إذا شقّ عليهم أن تطلب هذه العارية منهم بعد أن انتفعوا بها ؟ قال : ما أنصـفوا ، قالت : فإنّ ابنك عارية من الله تعالى فقبضه فاحتسب ابنك !
( 30 )
ولمّا أصبح الصباح غدا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخبره بما كان بينه وبين زوجه فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : بارك الله لكما في ليلتـكما ، فكان في تلك اللّيلة حملها بولدهما عبدالله ، فلمّا شبّ تزوّج وأنجب ذرِّيّة صالحة ، والزواج بالصالحات يورث الأبناء الخصال الحميدة .
وفي سبب نزول قوله تعالى : (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأولئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ )([48]) ، انّ اُمّ سليم وزوجها أبا طلحة ضيّفا شخصاً طلب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) منهما ضيافته ولم يكن معهما إلاّ قوت صبيانهما ، فقدّما للضيف كل ما معهم وباتوا هم والأطفال بلا طعام يريدون بذلك وجه الله .
هذه السيرة العطرة من زواج يقوم على مهر هو الإسلام ، وجهاد في أكثر من معركـة ، وتربية صالحة لمولود يوضع في خدمة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وموقف يطفح بالإيمان في مرض ووفاة طفلها وعدم اظهار ذلك لزوجها ، وتسـليم تام لقضـاء الله ، تنمّ عن أنّ المرأة إذا تعمّـق الإيمان في قلبها فإنّها تكون مثلاً ونموذجاً للأخريات من النِّساء ، فهي لا تقتدي فقط ، وإنّما تصبح هي نفسها قدوة .
عاشراً : آمنة الصّدر ( بنت الهُدى )
وهذا نموذج إيمانيّ معاصر ، فرغم البُعد الزمني بينه وبين النماذح النسوية التي استعرضناها حتّى الآن فإنّه يقدِّم لنا الدليل على أنّ مدرسة الإسلام قادرة في كلّ حين أن تخرِّج أمثلة نسوية عليا .
الشغوفة بالقراءة :
لم تكتفِ (آمنة الصّدر) (([49])) بمطالعة الكتب الدينية ، بل وسّعت من إطار قراءاتها حتّى شملت الكتب الثقافية الاُخرى في شؤون الحياة المختلفة ; لأ نّها كانت تُدرِك أنّ المرأة تحتاج إلى الثقافة بكلّ أشكالها ، ولكي تكون مرجعاً لغيرها من النِّساء لا بدّ أن تكون ملمّة بمختلف أنواع الثقافات .
( 31 )
اسـتثمار الوقت :
عُرفت (آمنة الصدر) باستغلالها التام للوقت ، فلم تكن تضيِّع دقيقة واحدة ، حتّى إذا كان هناك وقت فراغ استثمرته في تلقي الدروس على يد أخيها المفكِّر الإسلامي السيِّد (محمّد باقر الصدر) .
وكان وقتها موزّعاً على (القراءة) و(الكتابة) سواء للمجلّة الإسلامية التي كانت تصدر في وقتها واسمها (الأضواء) حيث كانت تخاطب من خلال مقالاتها الفتاة المسلمة ، أو كتابة القصص الإسلامية التربوية الهادفـة ، و (الإشراف على المدارس الدينيـة) التي كانت تُعرَف باسم ( مدارس الزّهراء ) حيث تديرها وتعيِّن مناهجها وتحلّ مشكلاتها ، و (المحاضرات) التي تلقيها على معلِّمات تلك المدارس ، والمحاضرات التي تلقـيها على طالبات الجـامعات وتجيـب على أسئلتهنّ وتحلّ إشكالاتهنّ ومشكلاتهنّ ، أو (الجلسات) الدورية التي كانت تعقدها في بيتها وبيوتات الأخوات المؤمنات .
كانت مدرِّسة متنقِّلة ، وطبيبة دوّارة بطبِّها .
الرّائدة في مجال عملها :
شهد العمل الإسلامي قادة كثيرين من الرجال ، لكن يندر أن تجد المرأة قائدة تؤسِّس لعمل إسلامي يجتذب النِّساء إلى حوزة الإسلام ، حتّى لقد تخرّج على يديها جمع غفير من النِّساء الصالحات العاملات المجاهدات . وتشهد لها سيرتها العطرة أ نّها لعبت دوراً جبّاراً في هداية أجيال من الفتيات المتمسِّكات بتعاليم الدين الحنيف .
تقول من موقع الريادة حاثّة الفتاة المسلمة على الالتزام بتعاليم الدين وعدم الانجرار وراء شعارات الغرب والشرق الخادعة : « فما أجدرنا اليوم .. إذ تمتحن الرسالة الحبيبة بشتّى المحن أن نرفع مشعل الدعوة الإسلامية ، ونستثمر علومنا وتعلّمنا في سبيل الدعوة إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة » .
وتقول من موقع المسؤوليّة : « كوني مثلاً يُقتدى ولا تكوني ألعوبةً تعتدى ، كوني متبوعة لا تابعة ، قاومي الإغراءات .. اصمدي أمام كلّ شيء ، فإنّي لأعلم أنّ العقبات أمامك كثار ، وأنّ دربك لا يخلو من شوك وعثار ، لكنّ النكوص عار والتراجع شنار ، فالموت أولى من ركوب العار ، والعار أولى من دخول النار » !
القصّة والشعر الهادفان :
لم تقتصر (بنت الهدى) وهذه هي كنيتها التي تعبِّر أصدق تعبير عن أ نّها صناعة الهدى والإيمان ، على العمل التبليغي في إلقاء المحاضرات والدروس وكتابة المقالات ، بل انفتحت على الفتاة المسلمة من خلال مجالين حيويين قلّ أن التفت إليهما العاملون في تربية الأجيال الاسلامية .
( 32 )
فكتبت عدداً من القصص الإسلامية التربوية الهادفة التي عالجـت من خلالها موضـوعات عصرية مُلحّـة ، وكانت ترى أنّ تجسيد المفاهيم لوجهة النظر الإسلامية في الحياة هو الهدف من هذه القصص التي منها (الفضيلة تنتصر) ، (الباحثة عن الحقيقة) ، (لقاء في المستشفى) و (الخالة الضائعة) .
وفي شعرها صور من المقاومة التي تذكِّركِ بسميّة اُمّ عمار وبسودة بنت عمارة الهمدانيـة ، التي كانت قويّة في قول الحقّ ، وبزينب بطلة كربلاء ، وكلّ السائرات على هذا النهج ، قالت وقد فعلت ، فلم تكن تطلق الكلمات على عواهـنها ، بل تكتب ما يعبِّر عن صدق ولائها لإسلامها الحبيب :
قسماً وإن ملئ الطّريقُ***بما يعيق السيرَ قدما
قسماً وإن جهد الزّمان***لكي يثبّط فيَّ عزما
أو حاول الدّهر الخؤون***بأن يريش إليَّ سهما
وتفاعلت شتّى الظّروف***تكيل آلاماً وهمّا
فتراكمت سحب الهموم***بأفق فكري فادلّهما
لن أنثني عمّا أروم***وإن غدت قدماي تدمى
كلاّ ولن أدع الجهادَ***فغايتي أعلى وأسمى
وتقول بلهجة الواثق من منطلقه ومسيره وهدفه :
أنا كنتُ أعلم أنّ دربَ***الحقّ بالأشواك حافل
خال من الرّيحان ينشر***عطره بين الجداول
لكنّني أقدمت أقفو السير***في خطو الأوائل
فلطالما كان المجاهد***مفرداً بين الجحافل
ولطالما نصر الإله***جنوده وهم القلائل
فالحقّ يخلد في الوجود***وكلّ ما يعلوه زائل
سأظلّ أشدو باسم اسلامي***واُنكر كلّ باطل
وتقول بلهجة الواثق أنّ المستقبل للإسلام لا لغيره :
غدٌ لنا لا لمبادئ العدى***ولا لأفكارهم القاحلة
غدٌ لنا تزهر في أفقه***أمجادنا وشمسهمُ زائلة
غدٌ لنا إذا تركنا الونى***ولم تعد أرواحنا خاملة
غدٌ لنا إذا عقدنا اللوا***لديننا في اللّحظة الفاصلة
لا وهنَ لا تشتيت لا فرقة***نصبح مثل الحلقة الكاملة
إذ ذاك لا نرهب كلّ الدنا***ولا نبالي نكبة زائلة
( 33 )
غدٌ لنا وما اُحيلى غد***كلُّ الأماني في غد ماثلة
إذ ينشر دستور اسلامنا***تهدي الورى أفكارهُ الفاضلة
جهاد واستشهاد :
كما هي خديجة (رض) مع محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وكما هي فاطمة (عليها السلام) مع عليّ (عليه السلام) وكما هي زينب (عليها السلام) مع الحسين (عليه السلام) كانت آمنة الصدر (بنت الهدى (رض) ) مع أخيها المفكِّر الإسلامي السيِّد (محمّد باقر الصّدر (رض)) هو أخذ على عاتقه تربية الرجال الرجال ، وهي تعهّدت بتربية النِّساء النِّساء ، ولقد تحمّلا في ذلك الكثير من أشكال العنت والتهم والجحود والنقد والعذاب والاضـطهاد فلم يزدهم ذلك إلاّ اصراراً على قطع شوط الدعوة إلى الله حتّى نهايته .
وكما ابتدءا معاً انتهت حياتهما معاً قتيلين شهيدين عظيمين ليبقيا كما كانا دائماً نموذجين رائعين للمرأة المسلمة وللرجل المسلم أسوة بكلّ القدوات الصالحة من الرجال وكلّ القدوات الصالحة من النِّساء .
الخاتمـة :
حاولنا في ختام هذه الجولة أن نجري استقراءً لأهمّ مواصفات وخصائص المرأة المؤمنة ـ عبر التأريخ الإسلامي ـ وذلك من خلال عشرات الأسماء ، من أعلام النِّساء ، فكانت الحصيلة :
( الصِّدِّيقة ) : وهي التي لم يمسك عليها بكذبة في قول أبداً .
( الطّاهرة ) : وهي التي تمتاز بطهارة القلب ونقاء السيرة والسريرة .
( العالمة ) : وهي التي تضاهي في علمها أرباب العلم وربّاته .
( المحدِّثة ) : وهي راوية الحديث إمّا بالنّقل المباشر أو بالواسطة .
( المجاهدة ) : في نصرة دين الله وفي مقارعة المستكبرين .
( الزّاهدة ) : في ملذّات الدّنيا وزبرجها ومتاع الحياة وأضوائها .
( العابدة ) : التي اشـتهرت بالعبادة من صيام وقيام ممّا هو فوق الفرائض من النوافل والمستحبّات .
( راجحة العقل ) : أي أ نّها من ربّات العقل والحجى والرأي والرشاد، ويقال أيضاً ( عاقلة زمانها ) .
( الورعة ) : التي تتورّع عن ارتكاب المـحارم والمآثم والمعاصي ما صغر منها وما كبر .
( المعلِّمة ) : أي التي تعلّمت وتربّت ، ثمّ علّمت وربّت ، ويقال أيضاً ( معلِّمة نسوان عصرها ) .
( 34 )
( التّقيّة ) : أي التي تحصّنت فلا تقترف الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وهي حاضرة حيث أمرها الله ، غائبة عمّا نهاها الله .
( الفصيحة اللِّسان ) : أي من ربّات الفصاحة والبلاغة والحاضرة الجواب ، ويقال ( خطيبة النِّساء ) .
( الشُّجاعة ) : القويّة القلب والثابتة التي لا تهزّها المصيبة .
( المؤمنة ) : والإيمان درجات ، وحينما يشار إلى امرأة أ نّها مؤمنة فهذا يعني أ نّها حازت أعلى درجات الإيمان .
( الموثّقة ) أو ( الثِّقة ) : بحيث يعتدّ برأيها وتعتبر مرجعاً في توثيق الأحاديث والرّوايات ، وثقة فيما تورد من أخبار .
( الكاملة ) : أي أ نّها نموذج للإنسان الكامل فيما بلغته من كمال في ضوء الإيمان .
( النّاسكة ) : والنسك غاية العبادة .
( العارفة ) : بأحكام دينها ، أي المتفقِّهة والمتشرِّعة ، والعارفة بربّها التي تخشاه حقّ خشيته .
( المدبِّرة ) : في تصريف شؤون الحياة العامّة والزوجية والأسرية ، أي أ نّها تحسن رعاية ذلك كلّه .
( جليلة القدر ) : أي عظيمة الشأن ، لها منزلة بين النِّساء رفيعة بما أوتيت من علم وأدب .
( المرحِّبة بالضّيف ) : وهي التي تسرّ بإكرام الضّيف وتقدِّم له أجود ما لديها من طعام ومنام .
( الواعظة ) : وهي في مرتبة من الصلاح والتقوى والرُّشد بحيث تعظ بنات جنسها وتربيهنّ على الأخلاق السامية الحميدة .
( القارئة ) : للقرآن .
( الشّهيدة ) : التي ضحّت من أجل دينها فجاءها الأجل قتلاً في سبيل الله .
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق