الأميرة العمياء
إلى ذكرى المرحومة والدتي زكية الشيخ حبيب التي أمضت حياتها داعية
إلى الفضيلة ومكارم الأخلاق.
ÞÞ
الأميرة العمياء!!
حملت الأميرة الفانوس بيدها اليسرى، والعصا بيدها اليمنى، وأقسمت أن لا يهدأ لها بال حتى تقتل كل المنافقين في مملكتها الصغيرة، بعد أن وصلتها أخبار نفاقهم الذي فاحت رائحته، وأصبح يبعث على الاشمئزاز والقرف.
فقد أصبحوا يعيقون عجلة التطور بالمملكة الوادعة، نتيجة ازدياد أعدادهم وتنوع وتلون أقنعتهم، والواجب يحتم عليها أن تخلّص المملكة من أخطارهم التي تبدو للعيان، وللوهلة الأولى صغيرة، أما في حقيقة الأمر فهي أخطار جسيمة.
انطلقت في كل الاتجاهات بحثاً وتنقيباً إلى أن أعياها البحث وأضناها التنقيب.. فالخوف والحذر دبّا في أوصال المنافقين الذين بدؤوا يحذر بعضهم بعضاً حتى أن الأميرة لم تستطع أن تلقي القبض ولو على منافق واحد، فالشوارع والساحات التي كانت بالأمس تعجّ بهم أصبحت اليوم خالية، كانت تسمع بين الحين والآخر أصواتاً بشرية بعيدة، مشوشة، ومبهمة وغير مفهومة، وكانت تسمع بعض الأصوات الوديعة والهادئة والبريئة تخاطبها باحترام وتتمنى لها التوفيق في مهمتها هذه التي شاع خبرها في أرجاء المملكة بسرعة البرق.
سألت الأميرة نفسها مراراً ما هو سرّ هذا الاختلاف العجيب في أصوات الناس؟!. لماذا لا تكون كل أحاديث البشر صادقة ومفعمة بالبراءة والطيبة وحب الخير؟ لاسيما وأن البشر جميعاً يرجعون في انتمائهم إلى الأب آدم والأم حواء عليهما السلام.
ومن كان حديثه نفاقاً كان ضعيف الشخصية، مهزوزها، لا خير فيه ولا أمل منه، ولا ثقة بأقواله.
كادت الأميرة تفقد ثقتها بصحة ما سمعته عن المنافقين وأعدادهم المتزايدة فأيام وليالي البحث انتهت بلا جدوى.
قالت في نفسها: النفاق لا يدرّس في المدارس، ولا في الجامعات ولا يمزج مع أي نوع من أنواع الطعام، حتى الحليب إذا افترضنا أنه ينقل مع حليب بعض الأمهات، وهذا افتراض خاطئ، فالكثير من الأطفال في عصرنا لا يرضعون حليب أمهاتهم.. بل يتناولون حليباً مجففاً أو غير مجفف من حليب الأغنام والماعز والأبقار الخ.. الخالي من أي نوع من أنواع النفاق البشري الوراثي. كما أنه أي النفاق لا يستورد كما تستورد البضائع الأجنبية من الخارج. وهو ثقيل بحد ذاته حتى أن أية ريح تعجز عن نقله، فمن أين يأتي هذا الداء إلى مملكتنا؟
كانت رغبة الأميرة كبيرة بأن تكون مملكتها نظيفة وخالية من المنافقين لذا بدأت تقنع نفسها بأن المعلومات التي وصلتها ما هي إلا محض افتراء، وافترضت أن النفاق الذي يتحدثون عنه قد يكون عدوى حملتها ريح عاتية من بلاد بعيدة حطت ورحلت على الفور عن مملكتها. بعد أن اصطدمت بنفوس سكان المملكة الأباة الذين احتقروها وطردوها وبعد أن وجدت أن المناخ هنا غير مناسب، والتربة غير صالحة.
كادت الأميرة تطير فرحاً، فخطر النفاق غير موجود، وما سمعته لا يتعدى محض افتراء، أو عدوى لم يكتب لها البقاء والانتشار. وإن حقدها وحملتها على المنافقين لا مبرر لهما. وعزمت أمرها على أن لا تصدّق أي حديث تسمعه من اليوم فصاعداً في هذا المجال. بعد أن تأكدت وبتجربتها من أن الجو صافٍ لا غيوم فيه ولا عواصف.
فجأة انطفأ الفانوس، وسقطت العصا من يد الأميرة، التي كانت تدّب الرعب في أوصال المنافقين الحذرين والمراقبين لكل خطوة خطتها الأميرة والذين سارعوا لارتداء ثياب الحمل الوديع. وأعلنوا الطاعة، وبدؤوا يمسحون الجوخ ويقبلون الأيادي كما يقال كل حسب خبرته ومعرفته من لحظة ابتداء حملتها ضدهم حتى باتت تظن أنهم أشبه بمعشر الملائكة، ومن طينة غير طينة البشر.
ما أن انطفأ الفانوس وسقطت العصا حتى وبسرعة البرق سرق أقرب المنافقين من الأميرة العصا وبدأت الأصوات تتعالى والنبرات تزداد حدة وقساوة بعضها يطالب بقطع اليد التي كانت تهددهم وتحمل العصا، وأخرى تطالب بسجن الأميرة مع الأشغال الشاقة، وثالث يطالب بإعدامها بحجة أنها كانت تشكل خطراً حقيقياً على جيش المنافقين.
كان ذلك درساً لكل من حمل وهو أعمى العينين على النفاق وأهله.
22/10/1999
نهاية منافق
في ليلة دامسة من ليالي شتاء عرف بشدة برده وكثرة أمطاره وثلوجه. جرفت مياه سيل عارم جرذاً إلى مسافات بعيدة عن جحره، كاد اندفاع الماء الغزير يقضي على الجرذ لولا أن اعترضت مجرى السيل صخور كثيرة ذات أحجام وأوزان مختلفة، أعاقت اندفاعه مما أتاح للجرذ فرصة النجاة حيث وجد نفسه فجأة داخل وكر يحوي بقايا أطعمة. كاد أن يبدأ بقضمها لولا أن التعب والإعياء والنعاس حالت دون ذلك.
في ساعة متأخرة من تلك الليلة دخل الثعلب وكره فوجد الجرذ يغط في سبات عميق، كان الثعلب جائعاً، لكنه وعملاً بنصيحة أمه التي حذرته مراراً من أكل الجرذان خصوصاً، والحيوانات التي اختارت المجاري القذرة مسكناً لها عموماً. امتنع عن أكل الجرذ مردداً في نفسه: كم كان رائعاً لو كان هذا الدخيل ديكاً حبشياً أو أرنباً بريّاً، أو دجاجة سمينة، إذاً لأسكت عصافير بطني في هذه الليلة الحالكة التي ينطبق عليها القول الذي كانت تردده عجائزنا دائماً: "ليلة لا يعوي ديبها". أما هذا القبيح فماذا أفعل به؟ رائحته كريهة ومنظره يبعث على الاشمئزاز والقرف.
ركل الثعلب الجرذ النائم بقدمه ركلة قوية أيقظته مرعوباً، وما إن فتح عينيه حتى تناوله بضربة أخرى على رأسه كادت تدميه.
كان هدف الثعلب من فعله هذا معاقبة الجرذ على تجرئه على دخول وكره من جهة، ودبّ الرعب في قلبه من جهة ثانية.
كان الثعلب منذ زمن طويل يحلم أن يكون لـه حارس أمين على باب وكره ينبهه لأي خطر قد يداهمه، ويتنمر عليه ويطبق عليه كل حيله الجديدة. ويشعر بينه وبين نفسه أنه قوي، ذكي، محتال، سريع الحركة، إلى جانب أن وجود الحارس علامة على الأهمية، وعلو الشأن، فوجد ضالته المنشودة في الجرذ الذي لا يدري ماذا يمكن أن يطلق عليه اسم: المحتل، الدخيل، الضال طريقه، الزائر بلا دعوة، ولا موعد مسبق الخ.
بعد الضربة الأولى والتي بثّ فيها الثعلب هيبته، ومخافته في قلب الجرذ، ضمن أن هذا الأخير لن يخالفه في أمر مهما كانت الظروف. فبادر وعرض عليه أن يكون حارسه، وهو بدوره يؤمن لـه ما يحتاجه من غذاء وحماية.
أفرح هذا العرض قلب الجرذ، فالمكان الآمن للنوم موجود، والطعام سيؤمنه سيده الثعلب. وما عليه إلا أن يكون الخادم والحارس الأمين.
قبل أن يستلم الجرذ مهام منصبه الجديد، ويبدأ مزاولة أعماله بحراسة سيده الثعلب، كان هذا الأخير يستقبل بين الحين والآخر زواره، وأصحاب القضايا المحتاجين لمشورته ومساعدته. أما الآن فالجرذ أتقن فن التعامل مع حيوانات الغابة. إذ كان نادراً ما يسمح للمظلومين المتظلمين برؤية سيده. بل ولا حتى الزوار الأقل مرتبة، إذ كانوا بحاجة إلى انتظار طويل حتى ينالوا شرف مقابلة الثعلب، فالزيارات والمقابلات يجب أن تتم بمواعيد مسبقة. ولأهداف وغايات تعود بالنفع والفائدة على الثعلب بالدرجة الأولى، وعلى حارسه بالدرجة الثانية.
أَمَّا أن يستقبل الثعلب زواراً لحلّ مشاكلهم أو مساعدتهم في حلّها دون مقابل أو منفعة أو مصلحة، فكان الجرذ يعرقل مثل هذه الزيارات وبالتالي يحول دونها.
الثعلب كما هو معروف عنه محتالاً، ذكياً، فهم رغبة الجرذ في الأكل. فكان يحضر لـه طعاماً زائداً عن حاجته، تحسنت صحة الجرذ وزاد وزنه كثيراً، كان يعلل ذلك بالوقار، وبأن ضخامة الجسد علامة من علامات الغنى والنعمة، كان يحرص على سماع أخبار الحرج كل يوم وينقلها إلى سيده الثعلب، وكان يمطره بعبارات التفخيم والإطراء قبل وبعد كل وجبة طعام. كان يؤكد لـه كل يوم أنه وحده زعيم هذا الحرج وحتى الأحراج المجاورة. وهو وحده الذي يملك حارساً على باب وكره. وقد يكون زعيم الغابة المطلق في المستقبل وأن وحوش الغابة كلهم يخافونه ويحسبون لـه ألف حساب.
الثعلب يعلم جيداً إمكاناته، ومع ذلك ينعشه الإطراء أحياناً وكم من مرة رأى في منامه أنهم نصبوه زعيم الغابة المطلق. وعندما يستيقظ يفسر حلمه هذا أنه نتيجة تكرار الجرذ على مسامعه أنه الزعيم الذي لا يشق لـه غبار.
إلا أنه لم ينسَ الرعب الذي دبّ في أوصاله عندما رأى ذات يوم وعلى مسافة بعيدة نمراً من نمور الغابة يتجه نحوه، وكيف طار هلعاً ورعباً من الزعيم الحقيقي. فالثعلب يدرك أن الزعامة تمنحها الحياة للزعماء الحقيقيين. لا جرذ منافق أمضى عمره في أنفاق الأرض وفي أماكنها القذرة. ولم ير نمراً واحداً في حياته. أو يلتقي وحشاً كاسراً من وحوش الغابة.
ذات يوم قرر الثعلب التخلص من الجرذ المنافق. دعاه لنزهة في الهواء الطلق، بعيداً عن مكان إقامتهما، كان فرح الجرذ كبيراً، إذ سيسير بمحاذاة الثعلب. ولربما اعتبرا نفسه نداً له. وما إن اقتربا من فوهة بئر عميقة حتى ركل الثعلب الجرذ بقدمه ركلة قوية، وجد الجرذ نفسه على أثرها في أعماق البئر. وقبل أن ينطق الجرذ بأية كلمة وقف الثعلب وقال له:
أمضيتُ عمري في الاحتيال والخداع. وكنت أحياناً أنتقد نفسي لهذا الطبع الذي رافقني منذ الولادة. والذي ابتليت به طوال عمري، ولسوء حظي ابتليت بك أيها المنافق. أم أنك تظن أيها الأبله أنني أثق بكلامك المعسول الذي كنت ستقوله لأي ثعلب آخر، شريطة أن يطعمك ويدبّ الرعب في أوصالك.
ومع ذلك اطمئن فسأخرجك من الماء حالما أصبح زعيماً للغابة كما كنت تقول لي دائماً.
ذهب الثعلب غير آسف على جرذ امتاز بالنفاق. ودأب على وضع نفسه في غير مكانها الحقيقي. وحال بين الثعلب وبين المحتاجين لمساعدته ومشورته من أبناء جنسه، وعلى التفوّه بكلمات المديح والإطراء التي لا تحمل من الحقيقة شيئاً.
26/2/1999
õòõ
أنين الكتاب
هاجس خفي بدأ ينقر على مكامن الاطمئنان لدى الجدّة رغم قناعتها بأن إجابتها كانت كافية لتبديد مخاوف حفيدها عندما قالت له: أبوك ذهب باكراً إلى عمله، وأُمّك لم تستيقظ بعد من نومها، وأبواب منزلنا محكمة الإغلاق فمن أين جاء الأنين في قاعة المكتبة؟.
خافت الجدة أن يكون حفيدها مريضاً فبدأت تتلمس جبهته مرة تلو الأخرى، حمدت ربها لأن حرارته طبيعية، سألته إن كان يشعر بألم في رأسه أو تعب في بدنه أو جوع أو رغبة بالنوم وأي نوع من الطعام يريدها أن تحضرْ له؟
أجاب الحفيد بالنفي على أسئلة جدته فهو لا يشعر بألم أو تعب وليس لديه رغبة في النوم أو الطعام ومع ذلك بقيت الجدة في حيرة من أمرها.. الصغير لم يحدّث والدته بعد استيقاظها بما حدث لقناعته بأن جوابها لن يكون بأفضل من جواب جدته. إنما رغب في إخبار والده فهو يحبه كثيراً، ويعتبره مثله الأعلى. ما إن سمع الأب ما قاله صغيره حتى انهال بأسئلته على زوجته: هل حرارة ماجد كانت عالية ولماذا لم تستدعوا الطبيب؟.. الخ.
الأُم والجدة أكدتا معاً أن ماجد لم يشكُ من شيء وأنّه تناول طعامه بشهيته المعهودة وأنّ نومه كان هادئاً وهو نشيط طوال النهار.
في صباح اليوم التالي دخل ماجد أكثر من مرة إلى قاعة المكتبة متأملاً ومندهشاً من أعداد الكتب الكثيرة التي تكاد تنوء لثقلها رفوف المكتبة في حين كانت جدته وأُمه تراقبانه بحذر شديد.
لكنه لم يطرح عليهما أي سؤال وهما بدورهما قررتا عدم سؤاله كي لا تثبتا فكرة الأنين في ذهنه. أملاً بأن يكون قد نسيها.
كان الأب قلقاً، وجل تفكيره بما سمعه من ابنه البارحة ولم يخطر بباله أنّ الصغير استوحى فكرة الأنين من درس معلمته عن أهمية الكتاب وفوائده، وأن هذا الأخير يتألم إذا بقي في المكتبة مهملاً، وأنّ الكثير من الكتب يوضع في المكتبات للزينة وإشباع الغرور ليوحي للآخرين بأن سكان هذا المنزل من أصدقاء الكتاب. الصغير ماجد يرى بأُمّ عينه أنّ مكتبتهم ضخمة، وأن لا أحد يقرأ هذه الكتب وأن أباه يفتح أبواب المكتبة ونوافذها ليراها زوارهم وأن بعضهم يقف أمامها مذهولاً لضخامتها. قال في نفسه:
كلام معلمتي ينطبق على مكتبتنا والكتب لدينا حتماً تتألم. لن يهدأ لي بال حتى أقرأ مستقبلاً هذه الكتب.
ما إن اجتمعت الأسرة على طاولة العشاء حتى توجه ماجد إلى والده قائلاً: أسمع أنيناً آتياً من قاعة المكتبة يا أبت.
الأب: هذا مستحيل، القاعة لا تحوي إلا الكتب، والكتب خرساء لا تتكلم ولا تعرف الألم أو الأنين.
الصغير: أصوات الكتب أقوى الأصوات، لماذا لا تسمعون أنين مكتبتنا أم أنكم لا ترغبون.
الأب: اصدقني يا ولدي، أتسمع أنيناً أم تتصور وتتخيّل هذا أَم أنك مريض؟.
الصغير: شرحت لنا معلمتنا عن دور الكتاب وأهميته وأنه يتألم إذا أُهمل.
أثنى الأب على صغيره لإصغائه الجيد لدرس معلمته ولما يحمله من حبّ للكتاب نبع المعرفة، وأقرّ بينه وبين نفسه أنّ الكتب وجدت لقراءتها والاستفادة منها لا لعرضها والتباهي بها.
24/1/2003
&ïð&
العقد
في أحد الصباحات الجميلة انفرجت شفتا الأرض عن ابتسامة رقيقة فولدت السواقي والأنهار.. واتبعتها بقهقهة عالية فتشكلت البحار والمحيطات.
احتارت الأرض بين أن تلوم نفسها على ما فعلت أو تمدحها. وبينما هي في غمرة نقاش داخلي حاد زمّت شفتيها فولدت الجبال والروابي والهضاب والتلال.
شعرت الأرض بسعادة عارمة لأنّها وبقليل من حركات شفتيها رسمت ما يبعث على البهجة والإبداع، لكنها خافت إن تابعت حركاتها أن تتحوّل قشرتها بالكامل إلى جبال وهضاب وتلال ووديان وبحار ومحيطات.
وتصبح الحياة على وجهها السهل المنبسط صعبة معقدة. فقطعت على نفسها عهداً حرصت على تنفيذه والالتزام به أن لا تبتسم ولا تقهقه ولا تزم شفتيها بعد اليوم كي لا يتشوّه المنظر البديع الذي رسمته في ذاك الصباح المشهود. لكنّها أجازت لنفسها الاهتزاز كسرير طفل على وشك النوم تهزه يد أُمّ حنون، شريطة أن لا يغضبها أحد فتكون مضطرة للاهتزاز بعنف وقسوة.
الأرض دائمة الحركة فكّرت بعقد تحالف مع السماء رغم بعد كل منهما عن الأخرى، شروطه أن تتساعدا في حل مشاكلهما صغيرة كانت أم كبيرة.
سألت الأرض السماء: ماذا بمقدورك أن تقدمي لي؟
أجابت السماء: لديّ المطر والثلج والبرد والبرق والرعد. أمّا أنتِ فماذا لديك؟.
أجابت الأرض: الطيور والأسماك والأشجار والأعشاب والأزهار والثمار والحيوانات وغيرها الكثير.
قالت السماء: ماذا سأستفيد منك؟ إذا كنتِ غير قادرة على أن ترسلي لي شيئاً.
شعرت الأرض بأن السماء على حق فكان الإنسان صلة الوصل بينهما.
وقد اعترفت الأرض بينها وبين نفسها بأن تربية الإنسان في غاية التعقيد ولا تدري إلى متى بمقدورها تحمله. فهو قوي وضعيف ولامت الآباء والأمهات على سهولة تربيتهم لأبنائهم وتمنت عليهم أن لا يتساهلوا في تجاوزات أبنائهم صغار السن للأمور الصغيرة كي لا يتشجعوا عندما يكبرون ويشتد عودهم على تجاوز الأمور الكبيرة.
وهكذا نجحت الأرض والسماء في هذا العناق.
10/1/2003
ü‚Ø
الاندماج
في عصر يوم ربيعي جميل، تجرأ حمل وديع على أن يجري حواراً مع ذئب مسن عركته الأيام، وزادت خبرته التجارب. كان الذئب يقف على ريف صخري مطلّ على سهول، ووديان غنية بالأشجار الباسقة، ويكسوها العشب السندسي الجميل، بينما يقف الحمل على بعد أمتار من الراعي الذي يتظاهر بالنوم، فيغمض عينا، ويتفتح أخرى. ويده على الزناد، كي يحافظ على الهدوء والطمأنينة في قلوب قطيعه المعرض للخطر.
سأل الحمل الذئب: لماذا نواياك شريرة تجاهي أيّها الذئب؟. فكّر الذئب قليلاً بينه وبين نفسه وأجاب: لا تتهمني بإضمار نوايا شريرة تجاهك أيّها الحمل. صدقني أنا أحبك، أحبّ لحمك، وهل يضمر المرء النوايا الشريرة لأصحاب اللحم اللذيذ؟!.
قال الحمل: لماذا إذن تحدثني نفسي بأنّك ستفترسني إن اقتربت منك؟. قال الذئب: بسيط أنت أيّها الحمل، تحكم على النوايا، وقد تكون هذه الأخيرة في غير مكانها. ها نحن نتحدّث كندين، ولو أنّ حديثنا يجري من مسافة بعيدة نسبيّاً، إنّي أمدّ يدي لك، وأدعوك بحرارة لصداقتي. كنت دائماً أقول بيني وبين نفسي: إنّ صداقتي مع أبناء جنسك تبعث السرور والانشراح في نفسي. أنصحك بأن لا تدع الشكّ أو الخوف يتسرّبان إلى نفسك، حتماً ستجدني على حق عندما سأشرح لك الأمر. وستقتنع بخطتي وأفكاري.
أولاً: أنا أكره الجوع ولا أرغب في تحمله، وأنت توافقني الرأي بأنّ القوي يجب ألاّ يجوع.
ثانياً: عندما نندمج أنا وأنت ستنتقل أنت إلى حالة أرفع وأسمى مما أنت عليه الآن.
قال الحمل: فهمت ما قلته أولاً، أمّا ما قلته ثانياً من انتقالي إلى حالة أرفع وأسمى مما أنا عليه الآن فهذا ما لم أستطيع فهمه. اشرحه لي من فضلك.
قال الذئب: أنت في وضعك الحالي، قليل الحيلة والذكاء، بطيء الحركة، ضعيف الجسم، سهل العريكة.. أمّا عندما نندمج على طريقتي، أي عندما سيغذي لحمك الطري خلايا عضلاتي، وأنسجة أعضاء جسمي، ستصبح أنت جزءاً مني، وستندمج خلايا جسمك مع خلايا جسمي، لا تخف أيّها الحمل، فأنت بهذه الحالة ستتطور، وستنتقل من حالة الحمل الضعيف إلى حالة الذئب القوي.
لذا أنصحك بالابتعاد عن الراعي كثيراً، والاقتراب منّي لنصبح أنا وأنت جسداً واحداً.
واعلم أيّها الحمل أنّك آجلاً أم عاجلاً ستندمج مع غيري إن لم تقبل بالاندماج معي، لذا أدعوك وفي هذه اللحظة بالذات للإسراع لعملية اندماج تكون أنت الرابح الأكبر فيها.
فكّر الحمل بكلام الذئب وركض مسرعاً باتجاه الراعي قائلاً:
أَليس من الأفضل لي أن أندمج مع الإنسان الذي يفكر ويبني ويصنع وأُغذّي خلايا مخه المبدع، وقلبه المحب، ويده الكريمة والسمحاء. من أن أندمج مع ذئب مخادع، مرواغ. سأبقى مع الإنسان.
3/12/1999.
öY€
المفاخرة!!.
ابتسم كوكب الأرض ابتسامة عريضة وطلب من قشرته أن تكتسي بالعشب السندسي وتتزيّن بالورود الجميلة، والأزهار الزاهية والرياحين. وطلب من الثمار والفواكه أن تنمو وتترعرع بسرعة لتكون متعة للناظرين. ومن الطيور أن تغرّد على أغصان الأشجار الباسقة أجمل ما عندها من ألحان، ومن الهواء أن يطرح بعيداً كل ما علق به من أتربة ومن غازات سامّة وموادّ ضارّة وأن يتشبّع بالأكسجين، ويبثّ أنقى ما لديه من نسمات عليلة منعشة. ومن الماء أن ينساب رقراقاً بعيداً عن أيّ شكل من أشكال التلوث، وأن يتماوج في الأودية والسهول استعداداً ليوم المفاخرة بينه وبين بقية الكواكب والنجوم.
كوكب الأرض على الرغم من صغر حجمه على يقين من أنّ النصر حليفه، فتربته المقدسة، والدائمة العطاء، لا تقدّر بثمن وما يحويه من معادن وثروات باطنية يختزنها في جوفه تفوق الوصف، وكم من مرّة سمّى نفسه بالكوكب العجيب ذي الحق بالريادة والأولوية والتفوق على بقية الكواكب.
عيون القمر الساهرة، وآذانه المرهفة السمع نقلت ما شاهدته وما سمعته من أخبار كوكب الأرض ونواياه الأخيرة إلى كوكبهم بسرعة مذهلة فما كان من هذا الأخير إلا أن سارع في تقديم شكوى عاجلة إلى الشمس طالباً التدخل لإعطاء كل ذي حقٍّ حقّه.
ما إن تلقت الشمس شكوى القمر حتى تزامن وصولها مع ما ورد للشمس أيضاً من أخبار كوكب الأرض حتى أعطت تعليماتها لأشعتها أن تتقلّص وتنحرف قبل أن تصل إلى الغلاف الجوي للكوكب المتعالي والمزهو بنفسه.
لم تمض سوى أيام قلائل على انحسار أشعة الشمس وتوقف تأثيرات القمر حتى انتفض الجليد والزمهرير من مكانهما وبدأ التمرد وعصيان الأوامر في كل زاوية وشارع وساح، وبدأت الأعشاب والورد والأزهار تذبل، والطيور تموت، وبدأ الخوف يعمّ أرجاء الأرض واكتست قشرتها ثوباً داكناً مظلماً مخيفاً.
أدرك كوكب الأرض فداحة الأمر وكبر الخطأ الذي أوقعه الغرور به، والمصير المظلم الذي ينتظره، فسارع لتدارك الأمر بطلب السماح من الشمس ومن القمر قائلاً:
جمالي وخيراتي هما ملك لكِ أيتّها الشمس، وملك لكَ أيّها القمر، كما هما ملك لي أنا كوكب الأرض.
أقرّ وأعترف أنّه لولا الشمس لما كان هناك نهار ولا ليل ولا دفء ولا نور، ولولا القمر لما كان هناك مدّ وجزر وحركة للرياح. ولولانا جميعاً لما كانت هناك الفصول الأربعة والأمطار والثلوج، ولا توفرت عندي شروط الحياة غالية الثمن.
3/11/2000
ZýJ
الورقة والقلم!!
ما إن رأت الورقة البيضاء بعينيها الصغيرتين القلم الأزرق يتقدم منها حتى بدأت ترتجف وكأن زمهرير شتاء قارس تمكن من أوصالها.
استغرب القلم اضطراب الورقة غير الطبيعي ووقف كالمسمّر في مكانه مراقباً الأمر. بعد صمت طويل استطاع القلم المبهور من تصرف الورقة الغريب أن يسمع صوتها دون أن تفتح فمها أو تنبس ببنت شفة قائلة:
أخشى أن أفقد قيمتي عندما تبدأ تبذر بذورك في تربتي. إني أكره أيها الصديق القديم البذور الفاسدة. إن الأطنان من شقيقاتي تذرف الدموع يومياً لأن جيوش زملائك الأقلام تعبث بها وتعكر بياضها وتحملها إلى الحفظ أو الرمي في سلة المهملات. ابتعد عنّي أيّها القلم إذا لم تكن تنوي أن تخطّ على بياضي الرأي الحرّ والحكمة النصوح والكلمة الصادقة فأنا التي كانت وستبقى تحلم بأن تضمّ إلى صدرها الكلمات اللواتي يبعثن في حناياي الدفء والسعادة.
للأُمهات أبناء أمّا أبنائي أنا فهم الكلمات اللواتي تخطهنّ على بياضي ولا أُريد أن أكون أُمّاً لأبناء عاقين.
ابتسم القلم المسكين ابتسامة صفراء وقال لها: لا تظلميني يا صديقتي الورقة نحن في الحال سواسية. أنا أيضاً ممن يعشقون الكتابة عن الجمال والحب والوفاء ولا أرغب أن أسطر كلمة نفاق واحدة، أو رأياً فاسداً، أو كلاماً مزوراً. خندقنا واحد، ومصيبتنا مشتركة إلاّ أنّ بعضهم يعبث بنا، ولا حول لنا ولا قوة.
مرات ومرات وددت أن يجفّ حبري أو تقذفني وإياك رياح قوية إلى أراض لا يصلها العابثون والمستهترون بنا.
كلمات القلم الدافئة هذه أراحت نفس الورقة فسارعت إلى القول: إنّ أهميتنا نحن معشر الأوراق والأقلام تفوق الوصف، فبنا وعلينا يكتب الإنسان قوانينه وأنظمته، يدوّن مواثيقه ومعاهداته ينظم علاقاته الاجتماعية، يثبّت حقوقه وملكيته، يبرزنا كوثائق عند الضرورة، يستعين بنا لتدوين تاريخه وأشعاره، فلسفته وعلومه وأفكاره، يفصح عن مكنونات نفسه، يشتم ويهدد إن لم يرغب في الكلام بواسطتنا.
قاطعها القلم قائلاً:
إنّا صديقان قديمان له، يلجأ إلينا عندما ينسَ مواعيده وذكرياته، نهدّئ أعصابه، يحملنا في جيوبه، يحتفظ ببعضنا في صناديقه المحكمة الإغلاق وبين مجوهراته، لم نخدعه يوماً، لماذا يستهتر بنا؟!. لماذا يهدر الأطنان منا يومياً بلا فائدة؟!. لماذا يعبث بنا؟!. لعلّ تساؤلاتنا هذه توقظه من غفوته وتعيد المياه إلى مجاريها.
تابعت الورقة حديثها قائلة: كم سررت بما روته لي جدتي ذات يوم من أنّ رجلاً كتب عليها رأيه قائلاً: إنّ والدتي المسنة والمصابة بشلل نصفي تساوي عندي ملك الدنيا فلا ذهب هذه الأخيرة ولا أحجارها النفيسة تعادل ثمن والدتي. وتابعت جدتي القول: إِنّي فخورة بهذا الكلام وكم أودّ أن أقع في أيدي سكان المعمورة قاطبة ليقرؤوا جميعهم ما كتبه هذا الشاب المحب لوالدته. أّمّا أُمَّه فقد كتبت ذات يوم: كنوز الدنيا لا تعادل طفلي الصغير. إني أعشق هذا النوع من الكلام.
نعم أيّها القلم إنّ الإنسان هو الأسمى والأثمن في هذا الكون فلا ذهب ولا مال يساويانه صغيراً كان أم شابّاً أم كهلاً، مريضاً كان أَم معافى.
كم أودّ أن تسطر مثل هذا الكلام الجميل على بياضي لأبقى محتفظة به ما حييت.
وعدها القلم بأن يفعل ذلك إن استطاع فرغبة رفيقة عمره الورقة غالية عليه ولا معنى لوجوده دونها.
لكنهما كانا متفقين على أنّ الأمر كان وسيبقى بيد الإنسان ومرتبط به وحده لهذا السبب علا صوتهما قائلين:
قوّم الاعوجاج أيها الإنسان قبل فوات الأوان وتذكر دائماً أنّ الورقة والقلم الصديقين الحميمين لك يودان أن تبقى المخلوق الذي كرمه الله سبحانه وتعالى.
12 أيار 2000
.#.
ذبول الأزهار..!
منذ أن فتحت عينيها ورأت ما يحيط بها من ورود وأزهار ومروج تبدو مبتسمة وتزرع الفرح في النفوس أعجبتها الدنيا، وتمنت أن تعيش طويلاً، فهي أيضاً تحب الابتسامة والفرح وهذا بدوره يتوافق مع وصايا حكيمة الزهور اللواتي تحفظهن عن ظهر قلب وترددهن مع بزوغ كل فجر مذ كانت برعماً كي لا تنساهن من جهة، وكي تنقلهن بأمانة وصدق إلى أبنائها وأحفادها من جهة ثانية. وفحواهن:
نحن الأزهار نحب التأمّل والهدوء والكلمة اللطيفة واللمسة الحنون، ونكره الاعتداء والغضب والشجار والتملّق والنفّاق.
احذري يا ابنتي إن حكمت عليك الأقدار وزرت القصور أو قاعات الاستقبال أو شاهدت حفلات الرقص العامرة أن تقولي هذا هو جوّي المفضل، فنحن الأزهار أجواؤنا الهواء الطلق والشمس المشرقة، والماء العذب، وأيضاً نطرب لسماع أحاديث الناس الطيبين.
فجأة وجدت باقة الأزهار نفسها وسط قاعة كبيرة تضيئها الثريات ويغطي أرضها السجاد النفيس وتزدان جدرانها بالمرايا الواسعة ونوافذها بالستائر المصنوعة من الحرير الدمشقي.
غمرها الفرح وشعرت بسعادة عارمة فهذه أول مرّة في حياتها تدخل في منازل البشر.كادت تحسدهم لما ينعمون به من رخاء ونعيم. ولولا حبها لبني جنسها وولائها لهم لتمنت على الله أن يخلقها إنساناً. قالت في نفسها:
الذين يقطنون هذه القاعات الكبيرة حتماً سعداء، والسعادة تلازمهم في نومهم وطعامهم ولباسهم ويتذوقونها بكل جوارحهم ولا يجدون صعوبة في الحصول عليها. كيف لا؟!. وبيوتهم مليئة بما هو غال ويعرفون كيف يضاعفون ثروتهم. ما أجمل حياة البشر!!.
تعتريني الدهشة من نصائح حكيمة الزهور وتحذيراتها. أرجح أنها مخطئة من حيث لا تدري.
بينما كانت باقة الزهور هذه تحدث نفسها بدأت وفود المدعوين للسهرة تتقاطر. جلس كلّ في المكان المخصص لـه وبدؤوا يأكلون ويشربون ويرقصون وباقة الأزهار تنظر بعينين متعجبتين من كثرة الأطباق الشهية، والمأكولات الفاخرة، أمّا هي فما من أحد يرمقها بنظراته أو يحدثها بكلمة رقيقة. أصابها الذهول وبدأ قلبها ينقبض حزناً وبدأت تتذكر نصائح حكيمة الزهور نصيحة نصيحة قائلة:
أنا ملكة البراءة أتضوع بالروائح الزكية ومنظري يبعث على البهجة والسرور، ولا أحد يهتم بي، ولا ينظر إلي!!. كم أتمنى مغادرة هذا المكان الذي يخنقني ويحطم أعصابي. كادت المظاهر تخدعني ما أحوجني للجوهر.
نحن الأزهار نعشق الاهتمام بنا، ونطرب عندما يهدينا طفل إلى أُمّه، فتضمنا هذه الأخيرة، وتشمنا وتقبلنا ونزرع الفرحة والبهجة في عينيها ونسمع كلامها: الله ما أجمل هذه الباقة! إن أخشى ما أخشاه أن يلقوا بي فور انتهاء حفلة الرقص هذه إلى سلة المهملات. في الوقت الذي لا أزال احتفظ بنضارتي وحيويتي، عليَّ أن أَذبل بسرعة قبل أن يلقوا بي مع فضلات طعامهم كي لا أتحسر على شبابي. لن أرى بعد اليوم أصدقائي من زهور وشجيرات وعصافير. أشعر أنني أذبل لا كغيري من الأزهار وإنما بسرعة تفوق الوصف.
9/8/2002
Z@Z
أجنحة الكلمات!!!.
سأل الصغير نزال جدّته: حقاً يا جدّتي ما يقولون، عن أن للكلمات أجنحة؟!. وإن كان هذا صحيحاً فهل تشبه أجنحة الكلمات أجنحة الطيور؟!.
أربك الجدّة سؤال الحفيد وقررت أن تمعن التفكير قبل أن تبدأ الجواب. إلاّ أن نظرات عينيه الاستفسارية، وقسمات وجهه المنتظرة بشوق ولهفة سماع الجواب دفعتها إلى الإسراع بالقول: اعلم يا بني أن الكلمات يحملن أثقالاً وموازين تعجز الطيور مجتمعة عن حملها..
عجيبة قدرتهن على خزن مشاعر الإنسان وعلومه وأفكاره ورغباته وأحاسيسه. والطيران بها طالت المسافات أم قصرت لإيصالها إلى أصحابها بكامل حيويتها ودفئها.
أُشبههنّ بالإشعاعات البشرية غير المرئية، أو بالموجات الصوتية دائمة الحركة حيناً تضاهي أنجع الأدوية قدرة على الشفاء من أخطر الأمراض وأشدها فتكاً. وأحياناً يؤلم وقعها كالحرق الكهربائي.
مشهود لهنّ بقدرتهنّ على فتح نوافذ في منازل القلوب وإغلاق نوافذ مفتوحة. توصف بالجمال وبالروعة وبالصدق وبالبراءة، وتنعت بالكذب وبالشناعة وعدم الصحة الخ.
بائس وشقي من حُرم نعمة الكلام أو عرف القليل منه. وغنيّ من امتلأت جعبته منه، وسعيد من اختصّ بالكلام الصادق الجميل، والهادئ الرصين.
ما إن سمع نزار جواب جدّته حتى بدت عليه علائم السرور والانشراح وبادرها بسؤال جديد: هل معنى الكلمة يكبر كلما كثر عدد حروفها ويقل كلما قلّ هذا العدد؟!.
سارعت الجدة إلى القول: لا يا نزار، لو كان معنى الكلمة مرتبطاً بكثرة عدد حروفها لغضبت الشمس وما بزغت لأن اسمها مؤلّف من ثلاثة حروف فقط /شمس/. ولحرد النور وما أضاء أرجاء الكون لأن اسمه مؤلف من ثلاثة أحرف أيضاً /نور/. ولرفض الليل أن يرخي سدوله كعادته ليمتّع البشر برؤية النجوم الساطعة والقمر المنير، ويوفر لهم بالنوم شروط النمو والراحة. لأن اسمه مؤلف من ثلاثة حروف أيضاً /ليل/. ولفضلت النار أن تنطفئ مرة وإلى الأبد من أن تلحق بها إهانة من هذا القبيل لأن اسمها لا يتجاوز الأحرف الثلاثة /نار/.
إن أهمية الكلمة وكبرها ليس في كثرة حروفها بل بمعانيها. فقد تكون كلمة قليلة الحروف كالحب مثلاً، أو السلم، أو الحرب، أو البحر الخ.. لكنها كبيرة المعاني والعكس صحيح.
ذات يوم سمعت جدّك يقول:
يزداد وزن الكلمة وينقص حسب الفم الذي تخرج منه والأذن التي تلتقطها.
وقال أيضاً بهذا المعنى: لكل كلمة أكثر من وزن يحدد وزن الكلمة الفم الذي تخرج منه والأذن التي تلتقطها.
كان نزار سعيداً جداً بأجوبة جدته، وقرر أن لا يطلق من اليوم فصاعداً كلامه كيفما اتفق. بل أن يفكر بكل كلمة يقولها، وأن يبتعد عن أي نوع من أنواع الثرثرة. وهو الذي يحفظ المثل القديم عن ظهر قلب: "الثرثار كحطاب ليل يرمي على غير هدى".
وصل إلى نتيجة مفادها: أن اللغة لا تقدّر بثمن، جميلة، غنية، عذبة، كل كلمة فيها تنبض بالحياة، تلعب في حياة البشر أهم الأدوار. هي جزء منا ونحن جزء منها. وجب علينا احترامها، ومن يشوّه اللغة شوّه أعزّ وأجمل ما في الكون.
25/10/1999
———
الصياد
بعد ساعة ونيف من التجوال في الغابة وعلى ضفاف النهر الذي يمّر عبرها، ويقسمها إلى قسمين يكادان أن يكونا متساويين. شاهد الصياد سرباً من البجع يحلّق عالياً في سماء الغابة، ويحوم استعداداً للهبوط على ضفاف النهر.
سُرّ الصياد بمنظر الطيور المحلقة في كبد السماء وتفاءل بصيد وفير في هذا اليوم المشمس. إلا أنّ سروره سرعان ملا تلاشى عندما ظهرت في الطرف الآخر بعض الطيور الجارحة وهي تقترب من السرب استعداداً للانقضاض عليه، مما دبّ الهلع والارتباك في نفس طيور البجع وباتت تطير بسرعة كبيرة، وفي اتجاهات مختلفة.
ندب الصياد حظه وتذكر على الفور قول جدته المرحومة: "لا تقل عنباً حتى يصير في السلة".
توغل الصياد في الغابة أكثر فأكثر فصادف مجموعة من الأرانب البرية. طرد التفاؤل اليأس من نفس الصياد، إلا أنّ الخوف لم يفارقه في أن يحدث لـه مع الأرانب كما حدث لـه مع الطيور فسارع وأطلق النار من بندقيته على أحدها، إلاّ أنّه لم يصبه.
ندب الصيّاد حظه وقرر أن لا يعود إلى منزله خالي اليدين فأولاده ينتظرون عودته بصيد وفير.
في طريق العودة عرّج على مزرعة قريبة من قريته واشترى أرنباً سميناً إلا أنّ فكرة بدأت تراوده مفادها: أنّ الزوجة والأولاد لم يتعودوا على رؤية الطيور أو الأرانب التي يصطادها حية. فبادر وربط رِجل الأرنب بحبل وعلّقه بغصن إحدى الأشجار، ولثقته الزائدة بنفسه كصياد ماهر ابتعد كثيراً عن الأرنب وأطلق عليه النار فأصاب الحبل فقطعه وهرب الأرنب.
فجأة تبدل حزن الصياد إلى سرور وعلت ضحكته وقال في نفسه: هذا الأرنب ليس من نصيبي من جهة. وهذه الساعة ليست هي ساعة موته من جهة ثانية.
عاد الأب إلى البيت خالي اليدين.
الأبناء جميعاً كانوا مسرورين، وقد حمدوا الله على عودته بالسلامة، وتمنوا لـه صيداً وفيراًَ غداً أو بعد غد. فما لا تحصل عليه اليوم قد يأتيك غداً أو بعد غد. الزوجة وحدها غضبت ووصفت زوجها بقليل الحظ، وأنه لو ذهب إلى البحر لجفت مياهه.
في اليوم التالي عاد الصياد مبكراً من الغابة بعد أن كانت سلته مليئة بالطيور فقد اصطاد من سرب البط البري من على ضفاف النهر الكثير من الطيور.
16/4/1999
ÿÿÿ
الذئاب لا تغرد!!
مع إطلالة كل فجر جميل يغرد بلبل بصوته الرخيم على غصن شجرة ضخمة معمرة من أشجار الغابة:
اللطف يُثمر اللطف، والكراهية تولّد كراهية، وعلينا نحن معشر الطيور أن نزيّن الكون، ونضفي عليه المزيد من البهجة والسرور.
سمع ذؤيب تغريد البلبل هذا فتحيّر واستغرب، وثارت ثائرته وتساءل:
لماذا لا نغرّد كالبلابل؟!. ولماذا أصواتنا مفزعة، غير محببة، ويهرب الكثيرون منها عند سماعها، وكأنها نذير شؤم وخطر؟!. وهل نحن أقلّ مرتبة من البلابل حتى نعيش في الجحور، بينما هم يعيشون على أغصان الأشجار، ويطيرون بأجنحتهم الضعيفة والقصيرة بينما نحن معشر الذئاب نمتاز بالقوة والجري السريع ولا نستطيع التحليق ولو مرة واحدة؟!.
سمعت الذئبة تساؤلات صغيرها واستفساراته فاحتارت كيف تجيبه ومن أين تبدأ وهل في جعبتها الأجوبة المقنعة على الأسئلة الصعبة والمحرجة التي طرحها؟
بعد تفكير طويل اهتدت إلى القول: لا عليك يا بني ما نستطيعه نحن تعجز الطيور عنه، وبعض ما يستطيعونه هم نعجز نحن عنه أيضاً.
سلاحهم جناحان ضعيفان ومنقار صغير، وسلاحنا أنياب حادة، ومخالب تُمزق أقسى أنواع اللحوم، لهم رجلان قصيرتان واهيتان، ولنا أربع قوائم قوية متينة، تسابق الريح. يتكاثرون بالبيض، ونتكاثر بالولادة، هم يغرّدون ونحن نعوي، وكما نحن لا نستطيع التغريد فهم أيضاً لا يستطيعون العواء. هوّن عليك يا صغيري ولا تكن حزيناً، لضعفهم ينامون على أغصان الشجر ولقوتنا ننام على الأرض.
أجوبة الأم هدّأت من ثورة ابنها وشعرت أنها أعادت لـه الثقة ببني جنسه، فالذئاب فخورين بأصلهم ولا يجوز لأي منهم أن يشذ أو يطمح إلى تغيير جلده، واقتربت من صغيرها موشوشة:
نحن الذئاب لنا وجه واحد لا نغير أقنعتنا ولا نبدل جلودنا ولا نهادن عدونا، ولا نقاسم أحداً صيدنا أو جحورنا، سلاحنا الناب والمخلب وغريزة الحذر والدهاء في الكرّ والفرّ التي تعلمناها من تجاربنا ودروس حياتنا الصعبة والمعقّدة. نحن ملتزمون بأعرافنا وعاداتنا نتوارثها جيلاً بعد جيل وتنتقل معنا، تحركنا غريزة الجوع وضرورة البقاء على قيد الحياة. عندما نؤمّن طعام يومنا ترفرف علينا السعادة طوال اليوم، أما الإنسان.. فالغني يفتش عن السعادة وهي في متناول يديه، وتحت بصره، والفقير يبحث عن لقمة العيش ويعتبر سعادته في تأمينها. نعشق الأدغال فإن شبعنا لهونا ولعبنا ولم نؤذ حتى أصحاب اللحم اللذيذ.
تساءل الذؤيب مستغرباً: وهل بين البشر جياع؟!.
الذئبة الرمادية اللون قالت في نفسها: هذا سؤال تسهل الإجابة عنه، ثم توجهت إلى الذؤيب وقالت بعد أن قهقهت بصوت عالٍ:
الأرض واسعة وإن اختلفت تضاريسها، وهي غنية بأدغالها وأوكارها وكهوفها، وجحورها، بأنهارها وبحورها وبجبالها الجرداء والخضراء ووديانها العميقة، بعشبها السندسي الندي، وبحيواناتها اللذيذة النكهة والطعم.
ولو اقتنع الإنسان واكتفى بالحصول على قوت يومه لتبخر الفقر عن سطح الأرض ولعاش الجنس البشري أرغد عيشة وأهدأ بالاً، وأحسن حالاً.
سأل الذؤيب ولماذا لا تربيه أمّه على القناعة، فالإنسان ذكي ويستوعب بسرعة؟!.
أجابت الذئبة إنّ أصعب تربية يا بني هي تربية الإنسان، فهذا الأخير يتعلّم في الأسرة والمدرسة ويدرس في الكليات والمعاهد والجامعات ويقرأ الكتب والجرائد والمجلات، ويسمع الأخبار ويشاهد التلفاز. ولو أحصت أسرة من الأسر عدد التنبيهات والتحذيرات والترغيب والترهيب التي توجهها لطفلها حتى يكبر لحصلت على أرقام مذهلة. ذات يوم سمعت أماً تقول لابنها:
هذا ممنوع لا تفعل هذا إياك والقيام بكذا، هذا خطأ تجنّب فعل كذا. أخطأت يا بني لا تقل هذا، لماذا تصرفت بهذا الشكل. أنا لست راضية عن سلوكك. هذا حرام. هذا لا يجوز. سأعاقبك لن أشتري لك كذا وكذا. حتى أنها عاقبته بالضرب وشدّ الأذن. وحرمته من اللعب ومنعته من الخروج من المنزل...الخ.
تصوّر أن هذه التنبيهات والتحذيرات والإرشادات تتكرر على مدار الساعة وفي كل يوم ومع ذلك يرتكب الكثيرون الخطأ ويدافعون عنه وهم يعلمون أنه خطأ.
ثم قالت الذئبة: تُعساء نحن حيوانات الغابة لا ينبهنا ولا ينصحنا ولا يعلّمنا ولا يرشدنا أحد. ومع هذا يصفوننا بالوحشية فماذا نقول عن الذي تعلّم ولم يستفد مما تعلمه!!.
13/7/2001
óõó
الثلج وريش الدجاج
حدّث الديك نفسه قائلاً:
بديهي أن تطرأ تغيّرات على حياة الكائن الحي، وجميل أن تكون هذه التغيرات نحو الأفضل.
لا أشكو، لا أتذمّر، ولا أعرف طعم الاعتراض، فالشكوى والتذمّر، والاعتراض ليست من خصالي.
منذ وصولنا إلى المكان الجديد، وشيء وحيد يقلقني، ولم أجد لـه تفسيراً حتى الآن؟
جارتنا التي تناهى بأعجوبة، حديثي إلى مسامعها همست في أذني قائلة:
دع عنك ما يصعب عليك تفسيره، لا تتعب نفسك، مُذ فقسنا من بيوض أمهاتنا اكتنفتنا عناية فائقة: غذاء وفير، وماء نقي، وضوء ليل نهار، ودفء ونظافة، وطبيب يأتي على جناح السرعة عندما يصاب أحدنا بمرض أو كما يسمونه البشر أحيانا وعكة صحية!!.
أجبتها: عين الصواب تقولين يا عزيزتي. تصوري حتى التغيير الذي طرأ على وضعنا على الأرصفة وأمام واجهات المحلات بأقفاص حديدية وغير حديدية لم يكن تغييراً سيئاً. هنا نسمع أبواق السيارات، ونرى حركة الناس جيئة وذهاباً، ونتمعن بمن يقتربون من أقفاصنا، وينظرون إلى ريشنا الأبيض الجميل، وعُرفنا الأحمر القاني. إنهم مغتبطون لوجودنا، وبدورنا نحن سعداء لما لقيناه ونلقاه من حماية وعناية.
شيء وحيد أُمعن التفكير فيه ولم أجد لـه جواباً حتى الآن؟
قالت له: وما هو هذا الشيء الذي تفكر به منذ وصولنا هذا المكان الجديد...؟!.
قال لها: من يخرجونه من القفص لا يعيدونه إليه، إلى أين يذهبون به؟!.
وكلما وقف أحدهم أمام أقفاصنا ونظرت عينيه أشعر بالخوف وبالخطر معاً.
أجابته: أنت تضخم الأمر أكثر مما يستحق.
ولم تنهِ جملتها حتى أشار أحدهم بسبابته إليها وعلى الفور أُخرجت من القفص، وما إن رأت السكين يقترب من رقبتها حتى قالت: كنت على حق يا صديقي، وقريباً ستعرف كل شيء.
وتذكرت حكاية جدتها المفضّلة لديها:
شاهد أحد الديكة أول مرّة في حياته، منظر الثلج المتطاير فبدأ يصرخ حتى ملأ الدنيا ضجيجاً: انظروا، انظروا، ريش الدجاج يتطاير، ينتفونه، سيطعن البرد الدجاج، الدجاج في خطر. إني خائف، إني خائف.
إحدى حكيماتنا ذات الخبرة بمناظر الثلوج سارعت وهدّأت من روعه قائلة:
هذا ثلج أبيض، وليس ريش دجاج.
أمّا أنا فأقول: من بمقدوره أن يهدئ من روعي؟
حبذا لو اقتصر الأمر على تطاير الريش، ولم تسمح الحياة للسكين أن تلعب بعنقي لعبتها المخيفة المرعبة!!
28/2/2003
ØßßØ
التفاحة الذكية!!
قذفت الريح تفاحة ذكية عن غصن أمها إلى زاوية مهملة من الأرض فأعطب جزء من قشرها.
فعل الريح هذا لم ينسَ التفاحة الذكية بدايات تنفسها عبق الصباح الجميل أيام كانت زهرة ترمق بنظراتها الإنسان وتحلم باليوم الذي تكبر فيه وتنضج وتمتلئ عصيراً حلواً ورائحة عطرة إلا أنها وقعت الآن في مشكلة كبيرة، مشكلة رفض البستاني وضعها في صندوق تفاحه المعد للبيع كي لا تفسد أخواتها التفاحات بسرعة كبيرة.
التفاحة الذكية كانت دائماً تفكر أبعد من قريناتها اللواتي شكون ذات مرة من أن عمرهن كتفاحات جميلات ينتهي عندما يفقدن شكلهن ومنظرهن وحجمهن، كانت على العكس من قريناتها تحلم باللحظة التي يأكلها الإنسان فيها لتتحول إلى غذاء لخلايا مخّه الكريمة أو لعضلة قلبه المحب، أو ليده السمحاء المنتجة. كان حلمها كبيرا ًأن تكون من نصيب الإنسان لتدخل إلى أحشائه وترى حقيقة هذا الكائن العجيب لا من الخارج وحسب بل من داخله أيضاً علّها وقتئذٍ تساعده بعد أن يقهر جوعه على أن يبتكر فكرة مفيدة أو ينطق بيتاً من شعر تخلده الأيام أو ينجز اختراعاً عالمياً يضاف إلى مبتكراته واختراعاته الكثيرة والمتعددة أو أن تتغذى بها بويضة ملقحة تنتج طفلاً رائع الجمال.
التفاحة الذكية تدرك أن خلايا الإنسان وأنسجته تنمو وعظامه تكبر بفضل الغذاء والماء وهي أي التفاحة جزء هام منهما.
غالباً ما أصغت إلى أحاديث أمها الشجرة عن حبها للإنسان وحب الإنسان لها ولثمارها لا سيما حديثها الأخير:
لو امتنع الإنسان عن تناول الغذاء فجسده سيتوقف عن النمو والعطاء والقدرة على الإبداع وبالتالي سيموت لا محالة.
بعضهم لا يحترم النعمة؟! والبعض الآخر ينسَ أو يتناسىَ أهميتنا في عطاءات الإنسان ومبتكراته؟
على الإنسان أن يحافظ على نقاوتنا نحن الغذاء والماء كوننا وجدنا لخدمته، وكلما أبعدنا عن الغش والتلوث كانت فائدتنا لـه أكبر.
كانت التفاحة على يقين من أن العلاقة مصيرية بينها وبين الإنسان وأنها تقدم لـه خدمات جليلة ليس من العدل نسيانها أو إغماض العين عنها أو تجاهلها وأشدّ ما كانت تخشاه أن يعاقبها البستاني على ذنب لم ترتكبه فالحياة لم تهبها يداً تلوّح بها أو لساناً تتكلم به لتخبر عن مكان وجودها في اللحظة التي قذفتها الريح فيها وأن يقدمها لحماره المربوط بالحقل ويأكل من ضمن ما يأكله المعطوب من التفاح.
بدأت التفاحة تتضرع إلى ربّها كي يجنبها هذا المصير الذي تخافه ولا تحبه.
بدأت تطلب أن تغوص في أعماق التربة وتتحول إلى سماداً وإلى أي شيء آخر فقط على أن لا يأكلها الحمار الذي اختص واشتهر بالغباء رغم ضخامته وكبر رأسه.
استجاب الإله العظيم لدعوات التفاحة الذكية وتضرعها إذ التقطتها زوجة البستاني المعروفة ببخلها وسارعت بسكينها الذي لا يفارق جيبها الطويلة إلى فصل المعطوب من التفاحة وأكل المتبقي منها.
كان فرح التفاحة عظيماً فلم يأكلها الحمار ولم تندثر في التربة دون أن تحقق حلمها الذي انتظرته منذ أن كانت زهرة. وصلت معدة المرأة البخيلة وانتقلت إلى دمها أصرت على أن تسبح فيه وأن لا تتوقف إلا في المكان الذي ترغب وتريد. فجأة وبعد دوران طويل وجدت نفسها تقف لتغذي خلايا الجنين المختبئ في رحم المرأة البخيلة.
كانت سعادة التفاحة تفوق الوصف فهذا الجنين قد يصبح في يوم من الأيام عالماً مشهوراً أو طبيباً ناجحاً أو قائداً بارعاً أو فارساً مقداماً أو صحفياً جريئاً أو مزارعاً معطاء أو...الخ.
المهم أن لا يكون غبياً أو بخيلاً.
21/8/1998.
Ab{L
العصفورة الزائرة!!
بالأمس بدأت عصفورة صغيرة تطير من حي لحي، تبحث بمنقارها الغض عن قوت يقيها شرّ الهلاك. همّ العيش، ووحشة الأجواء أفقدا العصفورة عذوبة التغريد. سألت نفسها مراراً: لعلّ والديّ أنجباني بكماء؟!. أو لعلّ مرضاً خطيراً ألمّ بي في طفولتي فأفقدني صوتي الحنون؟. أريد أن أغني للحرية، وللجمال، للمحبة، لسنابل القمح، لكل ما هو جميل في هذا العالم. لا أريد أن أغني في قفص ولو من ذهب.
فجأة وجدت العصفورة الصغيرة نفسها في بيت فقير، لاحظ وجودها في المنزل ربّ البيت فبادرها بالسؤال:
من أين قدِمت يا عصفورتي الجميلة؟ إنّ منزلي غادرته الطيور الزائرة منذ زمن بعيد، وحتى الفئران أهلكها الجوع. إنك لن تجدي في منزلي إلاّ الطيبة والبساطة والحبّ والوفاء. فهي كنزي الذي احتفظ به في هذا العالم.
أنتم معشر الطيور نعتبركم نحن بني البشر بلا عقول، أمّا في الحقيقة، فأنتم خلافاً لبني البشر، لا تسرقون، ولا تكذبون، ولا تحتلون أراضي الآخرين بالقوة. ولا ترتكبون جرائم القتل الجماعي بحق الأبرياء. كما أنكم لا تبحثون إلا عن قوتكم اليومي، ولو فعل كل إنسان ذلك لفاض الخير، وعمّت السعادة، وازدهر السلام، وأورقت أشجار المحبة.
لعلّك تنشدينا بصوتك العذب بعض الأغنيات، فجدران منزلي خالية من كل الآلات التي تلتقط هفوات الأصوات. اصدحي يا عصفورتي الجميلة، فأُذناي متلهفتان لسماع صوتك العذب. لست أنت وحدك الجائعة في هذا العالم، فأعداد الجائعين في ازدياد مستمر.
شعرت العصفورة بنشوة عارمة، فالحبّ والطمأنينة يُنسيان الجائع جوعه ولو إلى حين. وأجابت بعد أن منحها صوت الكهل الوديع الطمأنينة:
فقدت يا صديقي صوتي الجميل، لا أقدر على الغناء.
قال الكهل:
أبداً يا صغيرتي. صوتك لم تفقديه، فأصواتنا قوية، وأغانينا عذبة. وبدأ يغني بصوت مفعم بالثقة بغدٍ مشرق جميل:
لتسقطي يا قلاع الذل
ولتنهمر يا مطر
لتغسل عفونات القرون المتراكمة
على جبين أمتي الحبيبة.
نحن على يقين من أن الحرية لا توهب
وأن وحدتنا باهظة الثمن
والشرفاء وحدهم هم الذين
ينتصرون على الخوف
يحررون الأرض
يحطمون الحدود
ويشيدون صرح الوحدة
الصباح قادم لا محالة، عندها
سنغني جميعاً:
للوحدة، للحرية، للخبز،
للوطن، للتحرير.
بلا خوف ولا وجل.
ما إن سمعت العصفورة هذه الأغنية، حتى اغرورقت عيناها بالدموع وبدأت تغرد بصوت لم يسبق لها أن غرّدت بمثله من قبل إلى أن انبلج الفجر.
3/4/1999
óóó
الغزال الجريح!!
في أحد الأودية المحاذية لسفح جبل عُرف بكثافة أشجاره وكثرة حيواناته البرية وتنوعها، ومن مسافة بعيدة شاهد صياد عدداً من الغزلان ترعى العشب الأخضر، وتُصيخ السمع خوفاً من أي خطر قد يداهمهم.
قرر الصياد إطلاق النار من مسافة ليست قريبة نسبياً خوفاً من هروب الغزلان إذا اقترب أكثر فأكثر. لأنه واثق من نفسه من جهة ومن بندقية صيده التي لم تخنه مرة من قبل من جهة ثانية. وبالفعل أصاب الصياد أحد الغزلان في كتفه الأيمن إصابة لم تكن بالقاتلة.
ركض الغزال الجريح بسرعة رغم الجرح الذي بدأ ينزف دماً وبدأ الصياد يعدو خلفه كي لا يفلت منه، وبعد مطاردة مضنية تمكن هذا الأخير من القبض على الغزال الجريح. فجأة شعر الصياد بإعياء شديد، ورغبة عارمة في النوم.
رغبة الصياد كانت كبيرة في إيصال الغزال حياً إلى بيته، فسارع لربطه بحبل إلى جذع شجرة معمّرة، وغطّ هو في سبات عميق.
في الغابة كان هناك صياد آخر عرف بقباحة وجهه وشدة حسده وحقده ولؤمه، يصحبه كلب صيد ماهر سمع هذا الأخير صوت إطلاق النار في الغابة إلا أنه لم يتمكن من تحديد مكانه إلا بمساعدة كلب الصيد الذي قاده إلى مكان الغزال الجريح.
بخفة ورشاقة وبحرص شديد على أن لا يوقظ الصياد النائم من نومه فك الصياد القبيح عقدة الحبل من الشجرة وهرب بالغزال إلى القرية، وما إن وصل منزله حتى بدأ يتبجح وبأعلى صوته أمام زوجته وأطفاله عن مهارته في صيد الغزلان.
استيقظ الصياد من نومه مرعوباً بعد أن شاهد كابوساً، ونهض مسرعاً إلى مكان الغزال الجريح، وكانت دهشته كبيرة عندما لم يجد لـه أثراً.
حزن الصياد كثيراً إلا أن حزنه لم يمنعه من الاندفاع وفي كافة الاتجاهات ركضاً وبحثاً عن فريسته التي بذل الكثير من الجهد والتعب حتى تمكن من إلقاء القبض عليها وفجأة اختفت؟!.
وبعد أن يئس من البحث سلّم أمره إلى الله وعاد إلى قريته متتبعاً آثار أقدام رجل وغزال وكلب على الطريق الترابي الذي بات يقترب من الدار المجاورة لداره.
ما إن غابت الشمس حتى فاحت رائحة الشواء من الدار المجاورة وبعد قليل دخل أولاد صغار إلى بيت الصياد وفي أيديهم قطع من اللحم وعندما سألتهم زوجة الصياد من أين لكم هذا اللحم؟!.
أجاب الأطفال: إن أباهم اصطاد اليوم غزالاً وأنهم رؤوا بأعينهم الغزال المصاب بكتفه الأيمن.
هرعت الزوجة إلى زوجها لتخبره بما سمعت. فازداد حزن الصياد لأن الدار التي فاحت منها رائحة الشواء هي دار أخيه الأكبر. والأبناء الذين في أيديهم قطع اللحم هم أبناء أخيه الكبير هذا.
لم يخبر الصياد زوجته ولا أبناءه بما حدث معه في هذا اليوم كي لا يُظهر أمامهم أخيه الأكبر بمظهر الحرامي رسمياً. وقد رأى في طريق عودته إلى القرية آثار أقدام رجل وغزال وكلب صيد. وأخوه الكبير الوحيد في القرية التي يملك كلباً للصيد، وبالرغم من هذا الدليل إلا أن الصياد المسكين لم يرغب في اتهام أخيه.
انتظر الصياد الليل بطوله علّ وعسى أن يرسل أخوه قليلاً من اللحم الذي لم يتعب في صيده.
إلا أن انتظاره لم يثمر، وتأكدت قناعته هي أن من يسرق تعب الآخرين ليس لصاً فقط وإنما هو بخيل وحسود أيضاً أخاً كان أم غريباً.
12/3/1999
hhh
نعجة أبو صطوف
حرصت نعجة أبو صطوف على أن تنجب خروفاً كل عام حتى أن صاحبها أبا صطوف كان يطلق عليها اسم "أم الذكور".
الأمر الوحيد الذي شغل بالها هو عدم رؤيتها أبناءها إذ ما إن يقرر أبو صطوف فطم أحدهم حتى تُحرم من مشاهدته.
كانت في حيرة من أمرها تقول حيناً: لعل أبا صطوف يملك حظيرة أخرى بعيدة يضعهم فيها وأحياناً تقول: إنه يسمنهم في مكان ما أو يهديهم إلى أصدقائه أو يبيعهم في القرى المجاورة للراغبين في تربية الخراف.
كانت تسأل نفسها دائماً هذه الأسئلة وتندب حظها لأنها لا تجيد القراءة والكتابة إذ كانت تأمل مع كل طرقة باب أو رنة جرس أن يحمل لها ساعي البريد الذي غالباً ما يحمل رسائل لأسرة أبي صطوف من أبنائه أو أصدقائه رسالة أو برقية تحملان أخباراً عن أبنائها.
أو على الأقل عن الأخير منهم فهو محبب إليها كثيراً كونه جميلاً ناعم الصوف، وديعاً، رخيم الصوت مطيعاً إطاعة مذهلة، لم يغادر مخيلتها لحظة واحدة، لا سيما كلماته المحببة إلى قلبها، مآ، مآ، مآ وطالما رددت بينها وبين نفسها: السحر العجيب في محبة الأبناء للأمهات لا يفوقه إلا محبة الأمهات للأبناء.
كان أبو صطوف مضيافاً لا يتردد في ذبح الخراف لضيوفه إكراماً وتقديراً لمحبته لهم، وتسهيلاً لأموره ومصالحه، إلا أنه كان يعمل بوصية والده ومفادها: لا تذبح يا بني الخروف أمام أُمه أو حتى بوجودها في المنزل فالأم غنمة كانت أم بقرة أم أرنبة أم عصفورة...الخ. أشد ما يؤلمها أن يذبح ابنها أمامها.
نعجة أبو صطوف هذه كانت تبذل المستحيل لتحافظ على علاقة الثقة بينها وبين صاحبها وأهل بيته. تدرّ لهم الحليب يومياً بكميات كبيرة، تعطيهم الصوف الجيد، تلد كل عام خروفاً وديعاً سليم الجسم معافى.
ذات يوم وإثر دوخة شعرت بها في رأسها أخطأت باب حظيرتها ودخلت غرفة الضيوف في منزل أبي صطوف وكم كانت دهشتها كبيرة عندما شاهدت جلود أبنائها على الأرائك في الغرفة. كادت أن يغمى عليها. قالت: كم كنت سعيدة قبل أن أدخل غرفة الضيوف ويصدمني الواقع المؤلم. كنت أعيش بالأمل وما أجمل أن يرافق الأمل الحياة لأنه لا حياة مع اليأس.
لم أكن أظن أن أبا صطوف قاس إلى هذا الحد. أمضيت عمري بانتظار عودتهم بينما لم يبق منهم إلا الجلد؟!.
خرجت النعجة من غرفة الضيوف مسرعة، وذهبت إلى الحظيرة. أضربت عن الطعام فلا ابتسامات أبو صطوف الماكرة قادرة على خداعها ولا تساؤلاته واستغرابه ما أصابها فقد شاهدت بأم عينها جلود أبنائها في غرفة الضيوف.
جفَّ حليبها، وأُصيبت بالهزال الشديد فلم يجد الموت صعوبة في اختطاف روحها.
آخر كلمة قالتها: الموت أهون من فقدان الأبناء. كانت أمّاً بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان.
21/12/2001
PÄP
فلسفة الذئب!!
في ليلة حالكة من ليالي شتاء قارس نهض ذئب مسن من نومه مذعوراً بعد أن أيقظه جوع كاد يمزق معدته وبدأ يصرخ:
تباً لحياتي على سطح هذه الأرض. يقولون إن كوكب الأرض أغنى الكواكب، وأنا لا أستطيع أن أملأ معدتي الصغيرة قبل أن أنام؟!.
ما أقسى الحياة مع الجوع. أيوجد في هذا العالم من ينهشه الجوع كما ينهشني الآن؟!. حتى النوم يصبح مع هذا الكافر متعذراً وغير مريح، وفجأة خفّت حدّة صوته وانخفض صراخه وتساءل:
لماذا لم يخلقنا الله قادرين على الحياة بلا طعام؟!. كان جدي يطرح هذا السؤال ويجيب عنه بأن الحياة ستفقد الكثير من روعتها وجمالها لو كانت بدونه، وأنا مع رأي جدي، فدجاجة الآن أو فخذ لحم يبعثان السعادة والنشوة في نفسي ساعات وساعات، ويطردان العصافير التي تزقزق بحنق وعصبية في معدتي وقد أيقظتني من نومي وكأني مشدوخ بعصا غليظة. آه ما ألذّ نوم الشبعانين!!.
ولكن من أين لي يا حسرتي بوجبة دسمة في هذه الليلة التي كانت جدتي تقول عن أمثالها "ليلة لا يعوي ذئبها"؟. إنّ خروجي الآن والريح تعصف والثلج يتساقط ليس محفوفاً بالمخاطر فقط، بل ولن تكون لـه جدوى أو فائدة.
أعلن للمرة الأولى في حياتي عن رغبتي في أن أكون مقرباً من سيّد الأرض، الإنسان، وأن أعيش في كنفه، وأعمل عنده على الرغم من أن أحداً لم يجبني حتى يومنا هذا عن تساؤلي:
لماذا يضمر الإنسان لنا نحن معشر الذئاب الحقد والكراهية؟!. أما آن لـه أن يغيّر نظرته إلينا وتعامله معنا؟!. فما أن يرانا حتى ينهال علينا بالحجارة والعصي وإطلاق النار ويمطرنا بالألفاظ النابية ويطردنا شرّ طردة في الوقت الذي لا نسعى فيه لانتهاك المحرمات كما يفعل بعضهم بتهجير أصحاب الأرض من أرضهم واقتلاع أشجارهم وهدم منازلهم وقتل أطفالهم لا لسبب إلا لأنهم أصحاب حق ولم يتنازلوا عن حقوقهم. كل ما نطمح إليه إملاء معدتنا الفارغة والنوم نوم الشبعانين لا نوم الجياع.
وا حسرتاه! معشر الذئاب يفتقرون إلى الحظ. خذ مثلاً: الكلاب مدلّلة لدى الإنسان يداعبها، ويغسلها بالصابون وبالماء البارد صيفاً، وبالفاتر شتاء، ويطعمها ألذّ الأطعمة وأفيدها، وينزهها يومياً صباح مساء وهي الضعيفة التي لا يزيد حجم الكثيرين منها عن حجم القطط. وكم رأيته يجرها خلفه أو يحملها بذراعيه ويقبلها مُطلقاً عليها الأسماء الجميلة ومفاخراً بها وبسلالتها، ويشتريها بأسعار باهظة وينظم بينها المباريات. وإذا مرضت يستدعي الطبيب البيطري على الفور لمعالجتها، وإذا ما نفقت بذرف الدموع الغزيرة عليها؟!.
أما عن الطيور المنزلية كالدجاج والحمام والبط والطيور المغردة ذات الأقفاص البديعة وغيرها فحدّث ولا حرج عن معاملته اللطيفة لها. غذاؤها الذرة بأنواعها، والشعير والحنطة والخبز المفتت وشرابها الماء النظيف...الخ.
أما النعمة التي يعيشها الخروف وأخته الفطيمة وأمه النعجة وسائر بني جنسه إذ يوليهم حبه ورعايته ويؤمّن لهم الطعام والشراب بأوقات ومواعيد محددة ويخاف عليهم من البرد والجوع والسرقة.
أما البقرة التي تأكل باليوم الواحد ما يكفيني طعاماً لأسبوع كامل.
البقرة الضخمة فلها زريبتها الخاصة المغلقة بباب حديدي كبير أقوى الذئاب يعجز عن تحريكه أو خلعه من مكانه والمزود بأكثر من قفل، ولها طبيبها البيطري الذي يُشرف على صحتها ويعالجها كلما ذبّلت عيناها. ما أوسع حظيرة البقرة فهي أشبه بالقصر المنيف إذا قيست بجحري أنا الذئب المكروه والمطارد بالألفاظ النابية حاضراً كنت أم غائباً.
صحيح أنا حرّ طليق، ولا أتلقى أوامر أو تعليمات من أحد. لكنني أعاني من مشكلتين أساسيتين:
الأولى تأمين الغذاء وخاصة في الشتاء المثلج القارس.
والثانية كره الإنسان لي وحقده عليّ.
بينما كان الذئب العجوز يحدّث نفسه دخل عليه ذئب فتي وفي فمه فخذ لحم كبير يكفيهما معاً لأكثر من وجبة وأشار على الذئب العجوز بطرف عينيه أن تفضل وَكُلْ.
لم يصدق الذئب العجوز عينيه أَهو في حلم أَمْ حقيقة. لم تطمئن نفسه إلى أنها حقيقة إلا عندما امتلأت معدته، وشعر بالاسترخاء، والرغبة في العودة إلى النوم، ودبّت الحرارة في جسده وبدأت أفكار مغايرة تزاحم الأفكار السابقة عندها قال:
الجوع ذل، والذل عبودية، والعبودية تتنافى والتفكير السليم. وأنا أرفض أن أكون عبداً حتى ولو ملؤوا جحري لحماً طريّاً كل يوم. فأنا قوي، وأنيابي حادة، وجريي سريع، وأفكر خلاف ما تفكر به هذه الحيوانات الضعيفة. خلقت للبراري، للقنص، للعيش الطليق، للحرية، أما هم فخلقوا كحيوانات أليفة. ينفقون جوعاً إن لم يجدوا من يطعمهم.
يجب أن أكون كما خلقني الله حرّاً طليقاً وإن جعت اليوم فسأجد غذائي غداً وهذه حال الدنيا يوم لك ويوم عليك.
أما عن كره الإنسان لي فمرده إلى أنني أقتنص ما يعتبره ملكه ومن حقه، وأتعجب من أمري إذ أفكر بشكل سليم عندما تكون معدتي ممتلئة. أما عندما أكون جائعاً فتفكيري لا يخلو من اعوجاج.
كدت أُقنع نفسي بالموافقة على العمل عند الإنسان مقابل تأمينه لي لقمة الطعام. ولكن تأمين الطعام، ومكان النوم، والحماية يجب أن يقابلها مردود. فالخروف يُسمّن ليؤكل. والبقرة تُطعم لتدر الحليب ولتنجب عجلاً أو عجلة. والدجاجة ملزمة بالبيض. ومن يأخذ دون أن يعطي فالإنسان لا يصبر عليه طويلاً!!
26/10/2001
õ‘õ
الفهرس
?C?
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق